مدينة دفاتر الوراق
علياء العامرية
في إحدى المقاهي الهادئة التي تنبعث منها روائح القهوة الغربية، التقيتُ بـ جلال برجس، كاتب رواية دفاتر الوراق، الرواية التي كُتبت عنها العديد من النصوص.
الرواية التي سكنتُ مدينة أوراقها، وأكلتُ من حيث أكل بطلها إبراهيم، وشربتُ الماء الذي شرب منه، وأحرقتُ الكتب التي أحرقها، رُبما أنا التي تسببت بذلك دون أن نشعر. شعرتُ لوهلة بأني ذلك الصوت الداخلي الذي يأمره وينهاه، أنا ذلك الوحش الذي يتحكم به ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال.
كان العم جلال يجلس على كرسي مريح، وأمامه طاولة زجاجية تكفي لشخصين. بعينين مغمضتين رأيت وجهه وهو يتأمل النقوش المرسومة على الطاولة، رُبما يفكر في كتابة نص جديد، ورُبما قصيدة جديدة. سحبتُ الكرسي المقابل بلطف؛ كي لا أخيفه وأربك خيالاته، ثم سلمتُ عليه بابتسامة هادئة، ورد على السلام بالابتسامة ذاتها.
ها أنا أصل بخيالي إلى الكاتب، أتحدث إليه كما لو أنه أمامي الآن، أعطيه كوبًا من الشاي الذي أحب، وأختطف من يده علبة السجائر التي يعشق، ثم اعتذرت منه بلباقة وهدوء على حساسيتي من رائحة التبغ، وبكل لطافة يقبل عذري ويشرب معي كوبًا من الشاي الساخن ويسمح لي بالحديث.
عرفته بنفسي، وأخبرته بأنني أسكن مدينة دفاتر الوراق. ضحك من خيالي ملء شدقيه، وقال لي بصوته الهادئ: “أتشعرين بأنكِ قرأتِ الرواية جيدًا؟” أجبتُه: “لا أدري إن كنتُ قد قرأتها جيدًا أم أني سكنت صفحاتها وانتهت بي الحياة بالطريقة التي انتهت بها حياة إبراهيم الوراق.” أخذ رشفةً ثانية من كوبه ولم يعلق.
سألتُه: “لماذا تكتب يا عم؟” أجابني: “أكتب لأهرب، وأحيانًا أشعر أني أعدو إلى الكتابة بحثًا عن أسلحة لم توجد بعد لأهزم تلك الوحوش، وأفتت طبقة الحزن، وأدحر عني ضجيجي الجواني. الكتابة فعل يصيبني بحالة من الوقوف في منطقة وسطى بين أقاصي الوجع وبين ذروة تحمله، إنها تصيبني بتعرق، وعطش، وحمى، وهذيان.”
سألته: “هل تعتقد أن الكتابة يمكن أن تكون وسيلة للتخلص من الألم تمامًا، أم أنها مجرد وسيلة لتخفيفه؟” أجابني: “الكتابة يا صغيرتي هي وسيلة للتعبير عن الألم، وليس وسيلة للتخلص منه. الكتابة تساعدنا على مواجهة الألم وفهم أسبابه، ولكنها لا تزيله تمامًا.”
صمتنا لبرهة، وأمسكتُ بهاتفي وشغلتُ موسيقى دودوك هادئة، ، ابتسم العم جلال وقال: “يبدو أنكِ قرأتِ نشيج الدودوك.” نعم يا عم، قرأتُها، وقرأتُ فيها ولعك بالصحراء، بالكتب التي شعرتُ بأنها جزء من الرواية بعشقك لهذه الآلة التي ربما كانت الصوت الأول الذي تسمعه في حياتك. أحببتُ موسم الهجرة إلى الشمال، وها أنا أقرأها وأعيشها حرفًا حرفًا كما كنتَ تعيشها في سفرك.
يبدو أن العم جلال يحب الصمت والتأمل مثلي، لا أدري إن كان مركزًا على ما أقول أم أن الدودوك أخذه إلى البعيد البعيد؛ لأنه لا يبدو على وجهه أي معالم للتركيز على ما كنتُ أقول. عيناه البدويتان الجميلتان كانتا مثبتتين على نقطة بعيدة، لا أعرف أين هي بالضبط. لم أستطع الوصول إليها بخيالي القاصر، فقررتُ أن أصمت وأتركه برفقة صديقه الدودوك الذي قال عنه: “الدودوك سيد الذاكرة، وعرَّاب حنينها إلى الخطوة الأولى لآدم على هذه الأرض، حزنه الجارح، وسيرة رحلته للبحث عن حواء، مركز الكون، وأذنها الوسطى.”
من الظلم أن توقظ رجلًا أحب الدودوك وتحدث عنه بكل هذه الشاعرية، من الخدر اللذيذ الذي يعيشه برفقة الآلة التي ولد على صوتها ونشيجها. وهذا ما جعلني أحترم صمته وأضع علبة سجائره وهاتفي أمامه وأمضي تاركة له مساحة تأملية هادئة تشبه براءة وجهه وصمت روحه.