لكِ الله يا غزّة، فصبرٌ جميل
سعيد بن سالم الغداني
منذ بدء العدوان الإسرائيلي الغاشم على مدينتنا العربية الغالية على قلوبنا (غزة)، والعدو الصهيوني يستخدم وما يزال أقوى وأحدث ما يملكه من أسلحة الدمار الشامل، متفاخراً بكل وقاحة بأنه يملك رابع أقوى جيش في العالم عدةً وعتاداً، فهدم المساجد والمباني السكنية والتجارية والمدارس، والمستشفيات، وكل المؤسسات الصحية على رؤس ساكنيها بمن فيهم الأطفال، حتى بلغ من اشتشهد منهم حتى الآن أكثر من (5900) طفل، كما تجاوزت أعداد من اشتشهد من الشيوخ والنساء حتى الآن أكثر من 16 ألفاً، وبلغ عدد الجرحى أكثر من 32 ألف جريح، ناهيك عن إلقاء أكثر من 33 ألف طن من المتفجرات على هذه المدينة الآمنة دون أن يصحى ضمير العالم أو يحرك ساكناً، بما فيه ميثاق الأمم المتحدة، ويقوم بالدور المُناط به، والذي من المفترض أن يضطّلع به في مثل هذه الأحداث، رغم أنه قادر على ممارسة الضغط على العدو الصهيوني بمختلف الطرق والوسائل لردعه ووقفه عن الإبادة البشرية الجماعية، كل هذا يتم بمعدات الحرب الفتاكة التي تصله من أبناء العم (سام)، مع دعمه المادي والمعنوي لإسرائيل.
فرُبّ سائلٍ يسأل: أين مواثيق ومعاهدات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، والتي من بينها حقوق الطفل؟ أين كرامة الإنسان الذي كرمه الله وفضّله على كثير ممن خلق، عما يحدث في غزة من انتهاك صارخ لتلك المعاهدات والمواثيق من قِبل الصهاينة؟ أليس لهم علم ودراية بذلك؟ فالشاعر العربي يقول:
إن كنت لا تعلم فتلك مصيبةٌ وإن كنت تعلم فالمصيبة أعظمُ.
فبأقلّ العبارات نقول ونصف ذلك بأنه (وصمة عار) على جبين الإنسانية، وذنبٌ لا يُغتفر، سيكون حسابه عسيراً عند الله.
هناك سؤال يطرح نفسه:
تُرى ما الجرم الذي اقترفه إخواننا الفلسطينيون المسالمين الآمنين حتى يطالهم هذا العدوان الغاشم؟
الجواب: لم يقترفوا أيّ ذنبٍ سوى مقاومتهم للاحتلال، وهذا حقّ مشروع لكلّ شعب محتلّ، وقد رأينا من سبقهم من الشعوب والدول التي طالها الاحتلال والاستعمار، حيث هبّت مسرعةً لمقاومته بكل ما تملك من قوة، وضحّتْ بالمال والنفس حتى انتصرت على أعدائها.
انا كمواطن عربي وكأقراني من العرب استبشرت خيراً عندما سمعتُ عن انعقاد قمة عربية إسلامية حول وقف العدوان على غزة، وكُنّا نمنّي النفس بأن تثمر عن وقفةٍ تضامنية شجاعة وقوية تسجّل على جبين الدهر بحروف ذهبية ضد العدو المعتدي وكل من يسانده ويدعمه، فهذا أقل واجب نقوم به تجاه إخوتنا، ممتثلين بقول رسولنا عليه الصلاة والسلام:
(مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى) متفق عليه، وقوله عليه الصلاةوالسلام:
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، ثم شبك بين أصابعه) رواه البخاري.
بالرغم من أن انعقادها جاء بعد أكثر من شهر من العدوان واستشهاد الآلاف من إخواننا الفلسطينيين، وإلحاق أضرار جسيمة بالبنى التحتية لمدينة غزة (فأن تصل متأخراً خيراً أن ألا تصل البتة).
لكن بعد انتهاء القمة أُصِبنا بخيبة أمل وذُهلنا، بل وصُدمنا بالبيان الصادر عنها، فكل ما أصف به البيان باختصار ما قيل بالمثل العربي (تمخض الجبل فولد فأرا)، وأترك للقارئ تفسير ذلك.
فيا إخوتنا في غزة العزة المدمرة، نحن الشعوب العربية، بغضّ النظر عن أنظمتنا، فإننا معكم قلباً وقالباً، ويشهد الله أننا ندعُ الله ونتضرّع إليه ليل نهار، بأن ينصركم نصراً مؤزراً، وأن يرينا ويريكم في أعدائكم عجائب قدرته، ونردد:
(لك الله ياغزة، فصر جميل)، فنصر الله قادم لا محاله، والله يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} الروم 47. ويقول سبحانه:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} الحج، 38، فأول الغيث قطرة، وهو إجباركم للعدو على توقيع هدنة، بوقف الأعمال العسكرية، وفتح المعابر الحدودية لإدخال الطعام والشراب والدواء والكهرباء لكل مناطق غزة، وخروج الجرحى والمرضى للعلاج في الخارج، وإطلاق سراح 150 أسير فلسطيني من سجون العدو، فالعدو قبِل تلك الهدنة على مضض، وبعد فشله في تحقيق ما كان يهدف ويخطط له، واستبسالكم وبطولاتكم المظفرة في المعارك معه وتلقينكم له دروساً لن ينساها مدى الدهر، أهمها قتل وأسر المئات من جنوده، وتحطيم أقوى معدات وآليات الحرب لديه.
ولكم المثل الأعلى في مقاومة الجزائريين للغزاة الفرنسين طيلة 132 سنة، الذين ضحّوا بمليون شهيد، وقد رأيت بعيني مدى شدة بطش الفرنسيين للجزائريين، بأن وضعوا صوراً لرؤوس المجاهدين ممن قتلوهم في طوابعهم البريدية، في الرسائل التى يرسلونها لكل دول العالم، كما سمعت بأن متحف اللوفر الفرنسي ما يزال حتى الآن يعرض لزائريه جماجم من قتلهم الفرنسيون ظلماً وعدواناً أيام الاستعمار للجزائر بكل غطرسة، ولكن الله غالب على أمره، فنصر الله إخواننا الجزائريين، وطردوا المستعمر عام 1962 وهو يجر أثواب المذلة والخزي والعار.
ومثال آخر في احتلال روسيا أقوى دولة في العالم بذلك الزمان لأفغانستان، وفي النهاية، بعد جهاد بطولي ومقاومة باسلة للأفغان القلة، انهزم الروس. فليس هناك وجه للمقارنة بينهم وبين الأفغان، لكن رغم ذلك ولّوا مدبرين، وتحررت أفغانستان، (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله).
كما أهمس في آذان إخواننا الفلسطينيين، لا تحكموا على كل إخوانكك العرب بأنهم متخاذلين وليس لديهم نخوة وحالهم كمن يقول (من هان يسهل عليه الهوان)، ففيهم من لا تتغير مبادؤه وقيمه، فهو تشرّب قضيتكم كما تشرّب لبن أمه في طفولته، فأصبحت قضيتكم تجري في عروقة كجري الدم في الجسد، فصبراً ثم صبراً، وإن غداً لناظره قريب.
فيكفيكم أن من مكاسب هذه الحرب هو تراجع الدعم السياسي للشعوب الأوربية لإسرائيل والذي كان بارزاً طوال فترة احتلالها
لفلسطين منذ 75 عاماً.
وبالرغم من أن الدول الغربية الاستعمارية كلها وقفت مع العدو الإسرائيلي تدعمه بكل ما لديها، ليس فقط الدعم السياسي، ولكنه دعم مادي وعسكري، ما زال مستمراً من الولايات المتحدة لتعويض العدو عن كل طلقة وكل آلية عسكرية يخسرها في الحرب، ولكن الدعم السياسي بدأ يتراجع ابتداءً من دول العالم الثالث ووصولاً إلى أوروبا، وأصبح هذا الدعم السياسي ينسحب تحت الضغط الشعبي وتحت المظاهرات التي تقام في كل المدن الأوروبية من مدريد إلى باريس إلى لندن إلى برلين، وفي السويد والدانمارك، وفي أميركا نفسها، وبدأنا نرى بعض المواقف السياسية المعتدلة.