سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
مقالات صحفية

حرة عما قريب ..

بلقيس البوسعيدية

لم أخُضْ حرباً حقيقية طوال عمري، لم تخترق صدري رصاصة، لم تختنق رئتاي بدخان القذائف والصواريخ، لم أنزف دماً ولم تُكسر لي عظمة واحدة قطّ، لم أقذف بكراتٍ من لهب، لم يُكوى جلدي بالنار، لم أسمع صوت بندقية عدا تلك التي كان أبي يصطاد بها طائر السمّان في الحقول والبراري، ولكني مع هذا أشعر بالاختناق، بالخوف والرعب، بالقنابل والصواريخ وهي تقصف المساجد والمستشفيات والبيوت، وبالرصاص وهو يخترق أجساداً طاهرة، ذنبها الوحيد أنها عربية الروح، فلسطينية أصيلة. أشعر بالفاجعة، بالجوع والعطش، أشعر بما يشعر به أهل غزة، ولكَم أخجل من تصريحي هذا؛ إذ إن جُلّ ما أشعر به ليس إلا قطرة في بحر معاناتهم. إنهم يعيشون الخوف والهلع كما لم يعرفه قلب أحد منّا، يرون أحلامهم تُقصف، وبيوتهم فوق رؤوسهم تُهدم، يرون جثث أحبائهم مشوّهة باردة ومحضّبة بالدماء، وجثث لأناسٍ غرباء مجهولي الهوية، وأكياس مملوءة بأشلاء أطفال أغلقوا أعينهم وناموا بين أحضان أمهاتهم أبداً.

مئة ألف تصوّرٍ يداهم عقلي ويحرمني لذة النوم مع كل مشهدٍ مأساويّ يعرض على شاشة التلفاز، تُرى هل سيعود الطفل الضائع إلى حضن أمّه؟ هل ستتعرف الأخت على صورتها المعلقة في عنق أخيها الشهيد؟ هل ستتوقف الأمهات عن النواح والبكاء على كتف الطريق؟ وهل سيعثر الأب المكلوم على ابنه الضائع؟ هل سيجد الشبع طريقه إلى بطون العطشى والجوعى في الخيام؟ هل ستحفظ مدارس الإيواء أسماء وتواريخ اللاجئين إليها؟ هل سيتعرف أحدهم إلى تلك الأشلاء المبعثرة في الطرقات؟ وهل سيسأل ذلك الرضيع المولود تحت الأنقاض يوماً عن لحظة ولادته؟ وماذا عن الناجي الوحيد؟ هل سيستطيع العيش دون عائلته؟
كثيراً ما أتصور نفسي بينهم ملطخة بالدماء والتراب، بذراع واحدة ورأس ملفوف بالشاش وساق مبتورة، أو بأضلاع مكسورة وعين معصوبة وشفة مشقوقة، وكثيراً ما أرى نفسي مدفونة تحت الركام وصوت أنيني لا يصل أبعد من أذني.

لم أعش الهلع بصورته الحقيقية، ولكني مع هذا أفهم جيداً ما معنى أن ينام أحدهم في سريره والموت يضحك له بشراهة قرب النافذة، ما معنى أن يذرف الرجال دموعهم في هيئة صراخ، وأعرف جيداً كيف تنام العصافير بلا أعشاش، وكيف تموت الأمهات واقفات كالأشجار، وكيف يكبر الطفل مع كل قصف مئة عام، وكيف ينبت الياسمين ملطخاً بالتراب والدماء، ولو خُيّرت أن أكون شعوراً لاخترت أن أكون طمأنينة في قلب فلسطين.

اللهم إني لا أملك إلا الدعاء لهم، فيا ربّ، من عمق قلبي أدعوك أن تجبر كسرهم، وأن تنزل الطمأنينة في قلوبهم، وأن تسدد رميهم. اللهم لا ترد لي دعاءً، ولا تخيب لي رجاءً وأنت أرحم الراحمين.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights