ذكرى دون ذاكرة ( والدي )
عبدالله بن حمدان الفارسي
ولدت في فترة لم يكن فيها التوثيق للأحداث متاحا في مدينتي، كالتدوين والتصوير بالنسبة لأغلبية أفراد المجتمع، نظرا للحياة شبه التقليدية، المفتقدة لوسائل التعليم والتعلم العصرية، الأمر الذي حرم مراحل العمر المتعاقبة الكثير من متعة الذكريات بالنهج والكيفية التي تشاء، ومتى ما تشاء، باستثناء ما ترسخ في الذاكرة من جزئيات متناثرة، وغير مترابطة ومتناسقة، لتكون شاهد عصر حقيقي على تلك الأحداث، التي يغلب عليها المشهد الضبابي في محاولة لاستعادة ما هو ممكن، نظرا إلى ما أفسده الوقت بسبب العوامل الزمنية وسوء التخزين غير الملائم في المخيلة البشرية ذات الإمكانيات المتواضعة.
إن ما أجبرني على الخوض في غمار الماضي، وسبر أحداثه، والتعمق فيها بقدر الإمكان، هو الكثير مما مضى من مواقف وأحداث وشواهد التي تمر سراعا بين الفينة والأخرى على خارطة العقل، دون وجود أداة تسجيلية موثقة أو مخطوطة حظيت باهتمام المؤرخ، إن المؤلم في كل تلك المراحل العمرية، هو ملامح والدي الذي غيبه الموت قبل ولادتي بفترة وجيزة، أثناء ترحاله وهو يجوب البحار، لامتهانه مهنة البحار كغيره من الرجال في السفن التجارية التقليدية (الخشب) المملوكة لتجار المدينة، وإشارة لتلك الحقبة من الزمن التي قلما تجد ما يوثق أحداثها، فإن ذلك حرمني من أي أثر أو صورة لوالدي يمكن الرجوع لهما، وبرغم الوصف والتقريب لي عن شخصه بقدر إمكانيات الرواة الذين عاصروه، سواء أكانوا من الأقارب أو القرائب، إلا أن الصورة في مخيلتي لم تكتمل عناصر الوضوح فيها، ولا زالت تعتريها بعض النواقص، وتكتنفها بعض الفوارق الوصفية المتباينة، وجرّاء ذلك افتقدت جزئية ذلك البريق لتلك الملامح الجميلة لوجهه، الذي اكتساه الوقار والجمال في آن واحد بناء على عهدة الرواة ممن عاصروه، وبسبب تلك الاختلافات البسيطة في الوصف، وعدم قدرة بعضهم على الإبداع لتوصيل المعلومة لتكون طبق الأصل، طغت على ذهني بعض الوشوشة، فليس من رأى كمن سمع.
متيم أنا في حب والدي، حتى وإن لم تشأ حكمة الله أن أراه وأتعايش معه فترة حياته، حتى وإن لم أتقاسم معه تفاصيل رحلته الحياتية بكل ما فيها من أحداث، أشتاق إليه، ولزجره لي وعطفه علي، لنصائحه وتوجيهاته، لنعله حين أغمس قدمي الصغيرة فيه، لأتعثر في كل خطوة بسبب طوله وسعته، يسوقني الحنين لارتداء قميصه الفضفاض (الشات) كما يطلق عليه باللهجة المحلية لأهالي مدينة صور العُمانية؛ لأبدو فيه كالقشة، أتوق لابتسامته ذات النواجذ ناصعة البياض حين أهب إليه راكضًا ليلتقطني بيديه، اشتقت لاعتلائي كتفه العريض، والعبث بشعره الكثيف كما رُوي لي، افتقدت حنانه عندما كنت أتصنع المرض ليبقى بجانبي، ويمدني بكل ما يملك ماديًا ومعنويا، إن شوقي لوالدي يتمثل في حبي لأولادي، مهما بدت قساوة وجهي لهم، وبطش يدي، ومرارة كلماتي عليهم، ولكن قلبي مليئ بالمحبة اللامتناهية لهم.
لا اعتراض على مشيئة الله، فكلنا راحلون إلى مصير حتمي، لا مناص منه، طال بنا العهد أو قصر، فأكرم وأجل خلق الله وحبيبه -صلى الله عليه وسلم- رحل إلى الرفيق الأعلى، وكذلك ولد يتيما، فتلك حكمته، لا يتجلى لنا منها سوى ظاهرها، ولكن ما خفي لا شك أنه أعظم وأسمى، لا نستطيع بإمكانياتنا المتنوعة المتواضعة إدراكه واستيعابه، ولكن يبقى الحنين ولو بالتعايش تحت مظلة الذكريات والتخيل لمن هو عزيز وغالي على قلوبنا، لا سيما في مقام الوالدين ومكانتهم بشكل خاص، المأساة التي تستوطن القلب أحيانًا أسبابها التعايش مع الخيال من واقع الخيال والأحلام، رغم اليقين التام بأنك تحلق خارج نطاق الواقع، ولا ضير في ذلك طالما أنه لا يوقع في المكروه، وكذلك المعاناة حين لا تجد شيئًا تقرأه بين السطور عن والدك، ولا شخوصًا تحتويها دفاتر الزمن له، ولا صدى لصوته تتقاذفه زوايا المكان لتشنفه مسامعك لتسعد به قلبك.
رحلت يا والدي، وغيبك اليقين عن الحياة قبل أن أشتم رائحتك الزكية، ذهبت من غير عودة، قبل أن أتشرف بتقبيل رأسك الشامخ، ويديك الكريمتين، كما وصانا ديننا الحنيف ببر الوالدين، لم يسعفني الوقت للقيام بهذا الشرف الجليل، رحيل لا لقاء دنيوي فيه إلا في مخيلتي، ولا عناق بعده إلا في أحلامي، تترحم عليك يا والدي مشاعري وحواسي وجميع جوانحي، ولا يثلج صدري إلا سمعتك الباهية، وأخلاقك الكريمة العالية، فكل من يتعرف على هويتي المرتبطة باسمك ويعرفك، يترحم عليك، ويذكرني بحسن خلقك، ومكارم أخلاقك ومآثرك الحميدة.
رحمك الله يا والدي، ورحم جميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، وأطال وبارك في عمر من تبقى من آباءنا الأعزاء.