2024
Adsense
مقالات صحفيةمن عُمان

القروي والعاصمة.. (7-15)

خميس بن محسن البادي

تابعنا في الجزء الماضي أن شكيل وجهينة زارا القرية وتقبلها السكان بارتياح جم بمن فيهم والدة الزوج التي باركت زواجهما، ومن القرية حملت جهينة بجنيها البكر وقد أوصت الأم شكيل بالإهتمام بها بعدما اعتذرت عن مرافقتهما للعاصمة، مما أسعد ذلك شكيل ليقينه برضا والدته عن اقترانه بجهينة التي أضحى موعد ولادتها قريباً..
جهينة ماتت، نعم، لقد ماتت جهينة ومات معها جنينها في أحشائها قبل أن تلده، وغادرت الدنيا الفانية للأبد، لكن كيف حدث ذلك فجأة؟

كان شكيل خارج البيت وفي البيت تعثرت جهينة وهي تنجز بعض الأعمال المنزلية لتسقط على وجهها وتصطدم جبهتها بجسم صلب وحاد، مما أدى إلى إغمائها مع نزيف أسال الكثير من دمائها، وما ضاعف الحالة سوءاً سقوطها على الأمام واستقرارها على بطنها وهي في أيامها الأخيرة من الحمل، وعاد الزوج بعد ساعات ليفجع بالموقف الذي هاله وسبب له صدمة لم يكن يتوقع حدوثه، خاصة الطريقة التي قضت بها جهينة نحبها، لكنه أولاً وأخيراً هو القدر الذي قدّره الله تعالى والذي لا مفر منه ولا مناص، وأنه الأجل المكتوب لكل مخلوق حين يأتيه موعده بما قدّره له المولى عز وجل أن يكون، وتمت مراسم الدفن وانتهت أيام العزاء، لكن ماذا عن شكيل الذي صار من جديد وحيداً في العاصمة بعد أن كانت الراحلة قريناً وجليسة ساهرة سامرة أنيسة له؟
فعلاً أصبح شكيل كما كان يوم قَدِمَ إلى العاصمة لأول مرة وحيداً، وصار يعود للمنزل وذكرياته مع جهينة لا تفارق مخيلته، ولأن البيت الذي سكنه معها مُلكها هي، ولكي ينسى ذكريات ألم فراقها الذي ما يزال أسير فكره وضائق به صدره، ها هو يغادره بعد ما سلمه مع بقية مقتنياتها لأهلها رغم ما به من خصاصة، فهو لا يمتلك بيتاً في العاصمة لكنه آثر الانسحاب متنازلاً عما له من ميراث لقناعته أن مقتنيات الراحلة لا يمكن أن تعوّضه عنها، بل يجد في استحواذه على ما خلّفته من ميراث استباحة لاستمتاعه بما سيرثه ما هو إلا تدنيس لنقاء العلاقة الحميمة الطاهرة التي كانت تربطه بجهينة بعد رحيلها، ونفسه تأبى وتنأى من أن يكون مدنساً لتلكم العلاقة المقدسة بمال زائل؛ ولذلك آثر التنازل عن طيب خاطر عن كل ما تركته، خاصة وهو لم يعتد الخلافات مع الآخرين هذا إن وجدت خلافات، وذلك لما يتميز به أهل جهينة أيضاً من دماثة الخلق وطيب المعشر، وشكيل من طبعه كذلك أنه رجلاً مسالماً ولا يحبذ الخلافات مع أحد، ويسعى إلى أن يكون الكل معه في وئام ووفاق وسلام، وبذلك انسحب من حياة أهل الراحلة جهينة بهدوء تام ليبقى التواصل الاجتماعي المعرفي بينه وبينهم عند كل سانحة، وسعى للبحث عن مسكن خاص به لكن هذه المرة هو أقدر مادياً ليستأثر لنفسه بالمسكن الذي يراه أكثر أريحية، وكان له ما سعى إليه حيث استقر أخيراً في منزل ناسبه كثيراً ورضي به، ومع مرور الأيام بدأ شكيل يتأقلم من جديد مع حياة الوحدة وفراقه لجهينة الذي أحزنه بداية أيام رحيلها كثيراً، وذلك بفضل نعمة النسيان التي أنعم الله بها على الإنسان حتى لا يكون أسير همومه وأحزانه، وهو يعلم أن الحياة لا تتوقف بموت أحدهم، بل هي سنة الحياة الكونية؛ ومن هذا المنطلق مارس حياته بشكل طبيعي حتى واتته الفرصة لزيارة القرية حيث والدته التي تنتظر بشوق شكيل وزوجه وطفلهما، ممنية نفسها بأن ترى حفيدها بعد غياب الأبوين عنها طويلاً، وقد مرت أيام على ولادته لتتمكن من حمله ومداعبته فرحاً به بصفتها جدته، هذا ما كانت تفكر به الأم وتنتظره دون أن تعي ما آلت إليه الظروف مع إبنها، ووصل شكيل القرية وما إن شاهدته بدون جهينة إلا وسألته عنها وعن وليدها مواصلة حديثها له أنها تعرف بأنه لم يرق له أن يشق عليهما برحلة الوصول إلى القرية راحة للمولود من عناء السفر ومشقته، وأضافت أن جهينة كانت تريدها أن تكون معها وسوف تذهب برفقته هذه المرة لرؤيتها ورؤية الطفل وستمكث معهم بضعة أيام، وأنها قد أعدت نفسها سلفاً للرحلة لتكون إلى جانبهم في العاصمة.

وبادرها شكيل بالحديث رداً على ما قالته بقوله ،، لكن يا أمي…. لكن جهينة ،،جهينة، فلم تنتظر الأم تردده في الكلام قائلةً له اطمئن جهينة نفسها ترغب أن أكون معها، مؤكدةً له بأن بقاؤها لن يطول أكثر من بضعة أيام، لكن شكيل ليس من الأبناء الذين لا يطيق أمهاتهم كما أن الأم لا تعني ذلك بمعناه المفهوم، بل هي ربما زلة نطق خانها في التعبير، فأمسك شكيل بها قائلاً ليس هذا ما عنيته فأنتِ مرحبٌ بك دوماً وعلى مدى الحياة ولكن ما أعنيه أن جهينة ماتت قبل أن تلد، فوقفت الأم مشدوهة كالبلهاء، فلما قص عليها قصص الوفاة جاء دورها لتصب جام غضبها على نفسها لأنها لم توافق على الذهاب معها حين طلبت رفقتها مرجحة أنها لو كانت معها قد تكون سبباً بعد الله في عدم حدوث ذلك لها، فخفف شكيل من وقع المأساة على والدته مذكراً إياها بأن ما حدث هو أمر مقدّر بمشيئة الخالق جلت قدرته، وأن الأجل حين يحل وتحين ساعته لا تحصّنه أية موانع، مضيفاً بأن سُنّة الكون هكذا هي، وأن لكل أجل كتاب وأن الحياة لا تتوقف بموت أحدٍ ما، وعرف أهالي القرية بوفاة جهينة، وقدّم الجميع تعازيهم لـ(شكيل) ووالدته، ولعل سائلاً يسأل عن عدم علم القرية بالحدث ولـ(شكيل) رفاق كان قد رافقهم لأول مرة إلى العاصمة. فأين هم إذاً من وفاة جهينة ومراسم تشييع الجنازة وإقامة العزاء ومواساة إبن قريتهم في مصابه بالعاصمة؟

وبطبيعة الحال فإن شكيل ومنذ أن وطئت قدماه أرض العاصمة لم يحبذ أن يكون حملاً ثقيلاً على أحد، فآثر اعتماده على نفسه منذ أن بدأ بشق طريقه خارج جغرافية القرية، وكان اتصاله معهم شبه معدوم إن لم يكن معدوماً فعلاً، وذلك بسبب مشاغل كل منهم ووجودهم في مواقع متفرقة عن بعضهم؛ وبذلك ساعدت هذه الأسباب مجتمعة على عدم التواصل فيما بينهم وهو نفسه لم يشأ أن تعلم والدته بالمأساة من غيره ودون وجوده بجانبها، وفي العاصمة حيث وصل شكيل عائداً من القرية، حان وقت امتحاناته الجامعية ليحصل أخيراً على شهادته الجامعية الأولى، والآن وقد أصبح شكيل من أصحاب المؤهلات الجامعية بعد سنوات دراسية متعثرة مر بها، وبعد تأهيل وتدريب من خلال دورات سابقة تم إلحاقه بها في مجال عمله، وها هو يتقلد منصب وظيفي أعلى بحكم مؤهله العلمي الذي حصل عليه وخبرته العملية التراكمية، وهو لا ريب أنه يستحق مثل هذا الترقي لجهوده التي بذلها بتحسين مستواه التعليمي وإخلاصه في عمله، فقد كان دائماً يؤثر وظيفته على مصلحته الشخصية، ويقدم لوطنه وبضميرٍ حيّ ما هو متوجب عليه تقديمه، فهل سيغيّر المنصب الجديد شكيل عما عُرف عنه من رفعة الأخلاق وحمائد الصفات؟ أم أن ذلك سيزيده من حسنها رقيّاً وتواضعاً وحلماً وهي الخصال التي طالما عرفه الآخرين عليها وعهدوها فيه؟

لقد أصبح شكيل الآن في وضع مادي أفضل عن ذي قبل؛ مما مكنه من بناء مسكن خاص به في العاصمة، كما أقدم على بناء مسكن آخر له ولوالدته في القرية على نمط حديث ومتسع، واستقدم لأمه عاملة منزل لتساعدها في شؤون حياتها ونظافة المنزل، كما ساهم بنفقات مالية في إجراء بعض التوسعة والتحسينات على مسجد القرية، واقتنى لنفسه سيارة رباعية الدفع حديثة الطراز يقدر أن يصل بها إلى القرية بيسر وسهولة متى ما سنحت له الفرصة، ليرتاح أخيراً من عناء السفر بواسطة سيارة الجيب اللاندروفر المزدحمة بالركاب وقرينتها المستحدث استيرادها واستخدامها في البلاد جيب ماركة تويوتا لندكروزر، فهو الآن موظف حكومي بمنصب مرموق ورائد أعمال ولديه القدرة المالية للاستمتاع بمباهج الحياة، وكما هو مطلوب إليه أن يقدم الخدمات للجمهور دون عراقيل أو صعوبات تبعاً للإجراءات المعمول بها وإدارة موقع عمله وموظفيه بما يجب أن يكون عليه بحكم موقعه الوظيفي القيادي هذا، فهو يسعى جاهداً كذلك لإدارة مؤسسته التجارية لتسيير إدارتها وأعمالها وتوجيه العمال الذين استقدمهم للعمل لديه بها لتبقى المؤسسة كما يرومها أن تكون ذا سمعة طيبة من حيث الأداء والانتاج الجيدين وكذلك التعامل، فهي تدر عليه بعض المبالغ التي تضاعف من دخله المالي لتعينه على تدبير متطلبات حياته، وأن حُسن التعامل والإدارة وجودة الانتاج والأداء أسباب تزيد من عدد زبائن المؤسسة والمتعاملين معها.

ورغم ما لديه من أعباء ومشاغل ومسئوليات إلا أنه لم يسوّف الوقت فقد انتسب مجدداً للجامعة لمواصلة دراساته الجامعية العليا، كما لم ينسى ولائه للبحر الذي يرتبط معه بذكريات جميلة على قلبه التي من بينها ذكريات لقائه بالراحلة جهينة فقد كان ذلك سبباً لزواجهما والتي ما تزال تجول في ذاكرته من وقت لآخر لما وجده فيها من الخصال الطيبة والصفات الحميدة، ولذلك ما يزال يزور ذلكم الشاطئ الجميل كلما وجد فرصة مواتية لديه، في حين تلح عليه والدته كلما زارها بأن يبحث له عن زوج يسكن إليها ويؤنس بها وحدته وتنظم له بيته وحياته بينما هو عذره دائماً لها بأنه لن يجد زوج كجهينة، ورغم ذلك يعدها بأنه سينفذ لها طلبها وسيولي الموضوع اهتماماً أكبر ليجعله واقع معاش في حياته، تُرى ما الذي ينتظر شكيل مستقبلاً؟

ولنا لقاء مقبل بإذن الله تعالى في الجزء القادم..

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights