(الثمن البخس) مِنّا من باع، ومِنّا من اشترى

سعيد بن سالم الغداني
لا شكّ أن المدرسة تُعتبر اللبِنة الثانية بعد المنزل في تنشئة الأبناء على المبادئ والقيم والتعاليم الإسلامية التي تنير لهم الطريق في يومهم وغدهم ومستقبلهم، لأنهم يدخلونها منذ نعومة أظفارهم وباكورة أعمارهم، ولا غروَ في ذلك لأنها تحمل اسماً على مُسمّى (التربية والتعليم).
وقد حفظنا ضمن المقررات الدراسية عشرات السوَر القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، لا سيما تلك التي توضح لنا أن هذا حلال افعلوه، وهذا حرام اجتنبوه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، آخر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بفترة وجيزة (فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ)، متفق عليه.
وفي حديث شريف آخر قال عليه السلام (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ) رواه البخاري. ويقول صلى الله عليه وسلم: (سياتي زمان على أمتي يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي الرجل مومناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرَض من الدنيا)، رواه مسلم، أو كما قال عليه السلام.
لكن الناظر والمتأمل إلى حال الأمة في هذا العصر، أقولها بكل أسف، والألم يعتصر قلبي، يجدنا في وضع يندى له الجبين، فهو مختلف عن الكثير من المنهج الرباني، فمع تغلغل المدنية في معظم المدن والقرى، وتطور العلوم والثورة الصناعية والتكنولوجيا، وما يعرف ب(السوشل ميديا، وما أدراك ما السوشل ميديا)، تركنا كل ما تعلمناه من قيم إسلامية في زاوية النسيان، وكأنها أضغاث أحلام، ما إن يصحى النائم سينتهي كل شيء.
ما شدّني بقوة لذكر كل ما تقدم، هو انتشار الظاهرة غير الحضارية وغير الصحية في مجتمعنا، والتي تؤدي إلى مخالفات شرعية، هي إقدام عدد ممن يرغبون بالترشح سواء لعضوية المجلس البلدي أو الشورى، إغراء الناخبين بتقديم المال أو المنافع المتعددة، كإيجاد وظيفة أو ترميم منزل .. إلخ، مقابل التصويت لهم، فهم بذلك يشترون ذمم الناس بثمن بخس، إلا من رحم ربي.
بالمقابل، نجد الكثير من الناخبين يرحبون بذلك كمن يبيع بثمن بخس.
بالرغم من أن الأشخاص في كِلا الفئتين يعلمون علم اليقين أن ذلك حرام شرعاً (فالحلال بيّن والحرام بيّن)، وإن حكومتنا الرشيدة شددت على النزاهة والأمانة والمصداقية في هذا المجال برفع شعار:(صوتك أمانة)، لكنهم لا يبالون بذلك.
وأنا هنا لا أعترض على ما يقدمه أشخاص ميسورون من مساعدات ومنافع لأشخاص محتاجين، ابتغاء وجه الله، فخير الناس أنفهم للناس، ولكن أن يقدم منفعة مشروطة بتحقيق مصلحة معينة فهذه هي الرشوة بعينها.
وذات مره سررت جداً وأنا استمع لحديث الشيخ المرحوم محمد الشعراوي عبر إذاعة القرآن الكريم (خواطر إيمانية) عندما قال والكلام على لسان الشعراوي:
قال لي بعض الناس:
لماذا الله يُدخل النار العلماء العباقرة الذين اخترعوا الأجهزة التي استنفعت بها البشرية خير استنفاع كالكهرباء، والسيارات، والهواتف وغيرها؟ فأجبتهم بأن هؤلاء غير مسلمين، وعندما اخترعوا تلك الأجهزة ليس لأجل الله، وإنما لأجل أن ينالوا شهرة وثناء من الناس، وعلى أن يحصلوا على تكريم بجوائز ثمينة، ويُصنع لهم تماثيل، ويُنشر عنهم الإعلام، وقد حصلوا على مبتغاهم، ففي الآخرة ليس لهم شيء من الأجر عند الله.
لقد ساقتني الأقدار وقرأت ذات مرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعليقاً يقول كاتبه وبكل وقاجة وكأنه كما يقال باللهجة العامية (فت الرمانة): (زوجتي صوتت لأحد المترشحين من قبيلتها مقابل كذا من المال)، أما آخر فيقول: عندما نويت الترشح لعضوية المجلس وسمع عني الناس بولايتي، رأيت من يتهافت إليّ من الناس، فهذا يعترضني وأنا خارج من العمل، وآخر وانا خارج من المسجد، ويعرضون عليّ بأنهم سيأتون بمئات الأصوات لترشيحي شريطة أن أدفع لهم مقابلاً مادياً، أو تسديد ديونهم ..إلخ. والأدهى في الأمر والكلام على لسانه أن أحدهم طلب مني مبلغاً مالياً لأداء فريضة العمرة، بالرغم من أنهم يعلمون أنني لا أملك أموالاً تفي بهذه المتطلبات، فاعتذرتُ منهم.
سبحان الله! ألا يعلم هؤلاء منذ أن كانوا في باكورة العمر وعنفوان الشباب أن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً؟ فلا يحلّ لإنسان أن يعتمر أو أن يحج بمال الرشوة المحرمة، وهل عميت عيونهم عن قول النبي عليه السلام (لعن الله الراشي والمرتشي).
أنا لا أعمم ذلك على الكل، فالرسول عليه السلام يقول: (الخير فيّ وفي أمّتي إلى يوم القيامة).
فهناك من يودّ الترشّح من الشرفاء والنزهاء، يخافون الله، منهم من سبق أن فازوا بالعضوية دون أن يسلكوا هذه الأساليب والعياذ بالله، وقدّموا خدمات ومبادرات مجتمعية، متميزة، كتكوين لجان لمساعدة المتضررين من الأنواء المناخية في مختلف ولايات السلطنة، وأخرى لفك كربة عن الغارمين بدفع ديونهم وإخراجهم من السجون، وتوزيع المواد الغذائية للمواطنين والوافدين في منازهم أيام الإغلاق لجائحة كورونا وكانت لهم بصمة وصوت مؤثر عن أبناء ولايتهم في قبة المجلس عندما استضافت كبار المسؤولين الحكومين، ولكن هذه النوعية من الأعضاء الشرفاء عندما أرادوا الترشح مرة ثانية وجدوا من ينافسهم على العضوية ممن يشترون ذمم الناس بالمال والمنافع الذاتية، ومن هنا أناشد جهات الاختصاص في الدولة للتصدي لهذه الأساليب غير الحضارية من منطلق الالتزام بشعار (صوتك امانة).