لله درك يا غزّة الصمود
ثريا بنت علي الربيعية
بتُ أعَاتب قلمي، ماذا دهاك خذلتني؟ حين أخُط حرفًا أبيت إِلا أنْ تقف! كلمات حبرك تلعثمت، وكأن لغة الضاد بكل حروفها لم تقوى قيامًا، أم أنّها من فيض المشاعر تراجعت وتجمدت؟
يا غزّة العُرْب صبرًا.. فالقلب يكتُم غصّة، والعينُ تدمى محاجرها دمعًا، والوجه محزون أنهكه وجع الليالي البائسات.
يا غزّة الصمود جبرًا.. فقد عجزت أقلامنا، ولم يعد نثرُ القصائد مُجزيا في وصف طفل برئ يتألم جرحًا يبحث عن والديه، أو قبضة أمان تطمئن قلبه المفزوع، ولم يكن في قاموس كلماتنا ما يخفف مُصاب شيخ مكلوم في أهله وداره، ولم نجد قولاً يواسي أم ثكلى تبكي مرارة فقد ابنها، أو حرقة القلب على فلذات أكبادها جميعًا، ولربّما ترثي أقارب كانوا لها كل الحياة فأصبحوا في عداد الذكريات.
ولكن الكلمة التي يجب أن نُعليها على منابر الحق لكل من يستهين بقضية فلسطين ويتخاذل عنها هي؛ أنك يا غزّة أبهرت العالم بصمودك، بقوة اليقين، وإرادة المؤمنين، واحتساب الصابرين. فو الله قدّم أبطالك للأمّم دروسًا نادرًة في التضحية والكفاح رجالًا ونساءً، شيبًا وشبانًا؛ ليشهد التاريخ على ملحمّة واجه فيها هذا الشعب الذي يتجاوز تعداد سكانه مليوني نسمة بقليل أقوى القوى العالمية، وأطغى التحالفات المعادية، ووقف صامدًا كالطود الشامخ رغم ما يحاصره من أزمات حرمان وقهر وسياسة تجويع وهجمات قاسية؛ لأجل أن يركع ويخضع ويتنازل عن أرضه، بيد أنه هذه الضربات لم تزد هذا الشعب الحرّ إلا يقينًا بعقيدته وتمسكًا بأقصاه، فصارت غزّة شوكة في كبد الأعداء المعتدين، بذلت فيها أغلى الأنفس لمقاومة العدوان الطاغي.
وهنا تجدر الإشارة إلى من كتبوا بدمائهم روايات الشرف التي لا تنسى على أرض فلسطين، ولا زالت أمجادهم تسطر كما نرى؛ ففي كل زاوية من زوايا غزة وعلى كل شبر من ترابها دم الشهيد يراق ليتدفق زاكيًا بشذا المسك، وليشهد على نفوسٍ عظُم البلاء فيها فأحسنت صبراً وثباتًا، تطّهرت قلوبهم من ركام الدنيا؛ فحملوا أرواحهم غالية على أكفّهم وقدموها فداءً لوطن لا يهاب الموت، نالوا شهادة الرباط فارتقوا لمنازل رفيعة في الآخرة، وهم أحياء عند ربهم يرزقون. فما أكرمها من درجة، وما يلّقاها إلا ذو حظ عظيم.
ولِله درُّكم يا أبطال غزّة الصغار فأنتم الجيل الواعد، قناديل النضال الذي ستُرفع شارة النصر على يديه، فتعلو على وجوهكم البريئة -رغم صغرها- هيبة الرجال وقوة المنطق؛ فأصبح لسانكم يصدح بكلمات اليقين، وحملتم الهموم الثقال وقد اغتال العدّو طفولتكم الجميلة؛ حتى حُرمتم كسرة الخبز وشربة الماء النقية، ودار أمان تأوي إليه أجسادكم الصغيرة.
حديثنا هذا غيض من فيض، والواقع الحيّ أكبر من كتابات مختصرة، فالمقال ذي شجن وما في القلب أعمق، والدروس عظيمة لن نوفيها حقها؛ إذ نشاهد هذه المحن التي يتعرض لها إخواننا في فلسطين ندرك عندها أن هذا الجيل استثنائي وكأنّه خلق للصمود، فقد تربى في مدرسة الإيمان، وأكل من رغيف الكرامة، لا نخاف عليه الهزيمة والله ناصره، لن تكسر عزيمته، والله حسبه مهما استبد الظالم وتجبر فيه، فهذا طريق الأحرار ومسير الأبطال، كما قال يومًا أبو قاسم الشابي:
” إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ
فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي
وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر”.
فيا غزّة العُرب لله درُكم.. فإنكم صمام الأمان لأرض الأقصى، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون؛ ستنهمر عليكم بشارات السّماء غيثًا مغيثًا، نصرٌ من الله وفتح قريب.