عزاؤنا واحد، الجدّة سليمة
فؤاد آلبوسعيدي
يُقال: عظَمة المرء تتجلّى في الإرث الذي سيتركه لمن بعده؛ أمّا عظمة الفقيدة الوالدة والجدة (سليمة) فقد تجلّت في حياتها التي كانت مليئة بالكفاح الكبير الذي خط؟ته سبيلاً من أجل تسيير أمور وشؤون أهل بيتها الذي كان مركزاً وملتقىً يزوره الكثير والكثير من العرب وأهل عمان، الذين كانوا فيما مضى مقيمون في المهجر من البرّ الشرقي من أفريقيا، فما كان من أحدٍ يمرّ بتلك القرية التي سكنوها إلاّ وكان يأتي للسلام -أخذ العلوم- وللقاء زوجها المضياف الجدّ (سعيد) الذي توفّاه الله قبلها بسنواتٍ عديدة، فاستمرّت من بعدِه في كفاحها ترعى تجارة فقيدها الراحل، وتهتّم بأمر الأولاد الذين كانوا صغاراً، ترعاهم وتنشئهم وتعلمهم الكفاح معها في الغربة، بل واستمرّت على ذلك حتى عند رجوعها مع بقية أفراد أسرتها إلى أرض الوطن (عُمان).
كثيراً ما سمعت بأنّ عظمة الكفاح لا تكمن دائماً في المال الذي ستورثه لأولادك؛ نعم، تلك مقولةٌ تيقّنتٌ منها، بل وأظهرت لي صوابها الكبير منذ بدايات معرفتي بالجدّة الراحلة (سليمة)، حيث أنّ مرور الوقت وتوارد السنين كان كفيلاً بأن تـنكشف وتظهر نتائج كفاحها المستمر، والتي أضحت تنعكس وتظهر جليّاً في الصّفات الحميدة والخصال الرّاقية التي زرعتها وغرستها عند الأخوال والخالات وأولادهم، بل حتى وعند الأحفاد الصغار الذين تربّوا ونشؤوا على حنانها ولطفها عندما كانوا يتجمّعون في منزلها مع كل إجازة أسبوعية.
أحياناً يقال عظمة المرء الراحل عن هذه الدنيا تكمن في ما ستراه وما ستسمع عنه بعد وفاته؛ تلك المقولة قد وقعت وحدثت بل وشاهدتها أمامي، مثلي كذلك هنالك من رأى وشاهد وربّما لن ينسى أبداً مَشاهِد ذلك الجمع الغفير من النّاس الذين قدِموا وتوافدوا رجالاً ونساءً من بقاعٍ قريبة وأخرى بعيدة عن سكن الفقيدة، فقط لكي يشاركوا أهل البيت أحزان فقدهم، وغيرهم من الذين توافدوا بأعداد غفيرة إلى المقبرة العامة من أجل نيل أجر وثواب حمل الجنازة والمشاركة في موارات التراب. أمّا عن أكثر المَشاهد التي تدلّ على مكانة فقيدتنا الجدة (سليمة) فهو ما حدث في مجلس العزاء الذي كان ممتلئاً في جميع أيام العزاء الثلاث، رغم كبر مساحته وسعة مقاعد مجلسه الكثيرة، هو ما سمعته من أحد المعزّين في يوم العزاء الأخير إذ قال متسائلاً:
(أيعقل أن يكون هذا هو اليوم الثالث والأخير؟ هذا المجلس ممتلئٌ عن آخره في آخر لحظات اليوم الثالث والأخير لتقبّل العزاء).
يقال عند المصائب والابتلاءات صبراً ثمّ صبراً وما بعد الصّبر حتماً سنجد شفاءً لقلوبنا جميعاً، تلك التي أصابها الأهوال والأحزان؛ نعم صبراً لنا جميعاً وأحسن الله عزاءنا جميعاً، فأنا منكم وأنتم منّي، وذلك هو ما أشعر به وأنا معكم قلباً وروحاً في كلّ الأتراح الموجعة، وكذلك أنا بينكم لحظة بلحظة في الأفراح التي من أمنياتي ودعواتي أن أراها لا تنقطع عنكم جميعاً.