قراءة في رواية حرير غزالة
خوله كامل الكردي
رواية “حرير غزالة” تجمع بين عالمَين يملؤهما التناقض، “حرير” الفتاة التي تشعر بالتشتت بين والدها الدبلوماسيّ، وأمّها ربّة البيت المريضة، تحاول أن تكون المترجم الصادق الذي يجتهد بكل إخلاص لإيصال رسالة كل واحد منهما للآخر، والدها يريد زوجة متفهمةً مثقفة، تراعي مشاعره وتنقله إلى عالمها الذي يحبّ بسلاسة، وأمّها غير المبالية بأيّ شيء سوى راحة نفسها، حتى نصائح الطبيب تلقي بها عرض الحائط، تأكل ما تشاء، وتفوّت مواعيد الأدوية من غير خوفٍ على صحتها.
“حرير” ترى ذلك بوضوح، كل طرف يحاول أن يستأثر باهتمام الآخَرين، ولا يعنيه شريك حياته، تشعر بالضياع بينهما، تتفهّم أمها تارةً، وتوافق والدها تارةً أخرى.
منبع الرواية يأتي من قرية تُسمّى “شعرات باط” تلك التسمية الغريبة المستوحاة من موقع القرية، حيث البيوت والدُّور تتناثر في وادٍ بين الجبال كشعراط الابط، تظهر “فتحية” وهي تحتضن ابنتها الرضيعة التي ما إن سمعت بوفاة زوجها حتى قذفت بطفلتها وصارت تنتحب مع النسوة، التقطتها “سعدة” التي أرضعتها وربّتها مع ابنتها آسية وأسمتها غزالة، وعندما عادت أمها إلى وعيها تذكرت ابنتها، فأرجعتها وأسمتها ليلى.
ليلى عاشت حياةً مليئةً بخيبات الأمل، أحبّت العازف وهربت معه وتزوجته، وأنجبت توأمان، تخلى عنها فيما بعد، وخضعت تحت توتّرٍ وارتباكٍ شديدين، لم تعد تشعر بطعم الحياة، حتى صادفت شخصاً آخر في عملها وتعشّمت أن ترتبط به ويتزوجها، لكنه اعتذر لكونه متزوج من ابنة عمه ولا يستطيع التخلي عنها، كأن قدرها أن يتركها كل من تحبّ، حتى أختها آسية رحلت مع والدها بعد وفاة أمها سعدة حسرةُ على موت ابنتها زهوة.
الدخول في علاقات فاشلة مصير غزالة الذي يلاحقها على الدوام، بإرادتها تخلت عن أمها فتحية وأبيها كأنها بذلك تنتقم من تخلّي أمها سعدية الأم البديلة وأختها آسية بالرضاعة، أحسّت أن الجميع تخلى عنها.
استطاعت الروائية العمانية جوخة الحارثي أن تبني قصة كبرى من قصص متناثرة في روايتها تخدم معنى القرية “شعرات باط” التي نشأت بها غزالة( ليلى)، تقفز في بعض الأحيان إلى سرد قصص جانبية لا ترتبط كثيراً بالقصة الأصلية، غزالة التي ويكأنها رضعت التِّيه من صدر سعدة التي ماتت كمداً وحزناً على صغيرتها زهوة التي غرقت في أحد الأفلاج. جمعت الروائية ثلاث عناصر أساسية في روايتها: التاريخ والحب والصداقة.
التاريخ: حيث أنها ركّزت على مسقط رأس الشخصيات كونها جاءت من قرية شعرات باط التي سُمّيَت فيما بعد الواحة، ثم الأفلاج، القنوات المائية التي تمر عبر البساتين والبيوت حاملةً معها أطفالاً يسبحون ويضحكون، والتي قضت آسية وغزالة وأطفال القرية جُلّ طفولتهم في اللعب والسباحة فيها. وصداقتها مع “حرير” الفتاة التي جاءت مع أمها المريضة لتتلقى علاجها، والصراع الثقافي بين والدها وأمها وتشتتها بينهما.
غزالة فشلت في علاقة زواجها أو التي أفشلها زوجها بهروبه وتخليه عنها، شعرت أن حبها لزوجها الذي ضحت لأجله وتركت أهلها في مهب الريح من الحزن والنقمة عليها، فانهمكت في تربية توأمها والعمل حتى وقعت فريسةً لحبٍّ محكوم عليه بالموت، الفيل الذي لا يمكنه الإقدام على خطوة الارتباط بها لأنه ببساطة متزوج ولا يمكنه خذلان زوجته ابنة عمه، شعرت غزالة أن الدنيا أحكمت الخناق عليها، فلجأت إلى البحر لتتخلص من أحزانها، والذي يذكرها ببراءة الطفولة يوم كانت في قريتها شعرات باط تلهو وتلعب وتمرح بلا مسؤوليات، ورأسٍ خالٍ من الهموم والوحدة.
الروائية جوخة الحارثي مثّلت في روايتها شخصية المرأة العمانية الريفية البسيطة التي تتفانى من أجل إسعاد زوجها وأبنائها وتضحّي لأجل ذلك، تركّز على المجتمع العماني بجميع فسيفسائه بلا إفراطٍ أو مبالغة، تدفع القارىء إلى الضجر، وتفلت خيوط الرواية منه، رغم أنه في بعض جوانب الرواية قد يُشعر القارئ نوعاً ما بحالة من التشتت، ثم ما تلبث أن تتّضح ملامح الأحداث وارتباطها ببطل الرواية، وفي خِضمّ تشابك تلك الأحداث تعاود تعريفه بهوية الشخصية التي تتحدث عنها ليتابع التسلسل المنطقي للقصة بأريحية.
سردٌ يتنقّل من قصة لأخرى، ومن ذكرى إلى وهج الواقع الحتميّ، يتضارب مع تناقض الشخصيات من حالة الرويّة وإدراك الحقائق إلى ردّات فِعل غير متوقعة صارخة، في مواقف حاسمة تصل إلي حدّ القفز عن بديهيات الحياة إلى التشبّث بالموت هرباً من مرارة الفشل والخذلان، نفاذ الصبر يغلب على بعض الشخصيات، كسعدة التي لم تتقبّل فكرة الصبر على قضاء الله بسبب موت ابنتها زهوة، وغزالة الهاربة مع العازف خشيةً من فقده، فآثرت الانحياز إلى حياته والكفر بحياة والديها، فالانصياع لنصائحهما ضياعٌ لفرصة زواج ذهبية قد لا تتكرر.
أُمّ حرير الغائبة الحاضرة في عقل وقلب زوجها، ليس لديها الإيمان الكافي بحق جسدها عليها، لا تلقي بالاً للطب والدواء، همها الاستمتاع بما تربّت عليه واعتادت عليه منذ صغرها، فأورثت ابنتها حرير القلق الدائم على صحتها وعلاقتها بوالدها.
الروائية جوخة الحارثي كعادتها تميل إلى توليد حكايات متعددة ومتنوعة في رحم حكاية كبرى، قد تجنح إلى التعقيدات السردية المتشعّبة، لكنها في النهاية تصل بالقارئ إلى شاطئ الحكاية الأصلية، فتلقي له طوق النجاة من تشابك وتداخل الأحداث والمواقف وتلاطمها في أمواج من الوجدانيات، والتي تضفي بصمةً خاصة على روايتها.