إنسانية الأطباء، وألم الذكريات، مع موسم خريف صلالة
سيف بن محمد المحروقي
لا أدري ما الصدفة التي قادتني لقراءة كتاب “دموع الملح” للطبيب الإيطالي “بيترو بارتولو وليديا تيلوتا” خلال هذه الفترة، حيث يحكي الدكتور بيترو بارتلو في كتابه قصصاً ومآسٍ عاصَرها خلال إدارته للعيادة الطبية الوحيدة في جزيرة لامبيدوزا جنوب إيطاليا، وكانت الوجهة الأكثر شيوعاً لمئات الآلاف من لاجئي أفريقيا والشرق الأوسط الفارين من الحروب والإرهاب وضنك العيش.
فما يحكيه الدكتور من معاناة الواقع المرّ للّاجئين، وتكبُّدهم لمخاطر ومآسي الهجرة إلى أوروبا، يلامس واقع مستشفى هيماء، والمؤسسات الصحية بمحافظة الوسطى، خلال فترة خريف صلالة. فعندما يزدحم الطريق بالمسافرين إلى محافظة ظفار، تكثر حوادث السير، والحالات الطارئة، فتُثقل كاهل الخدمات الطبية بالمستشفى، ويعاني من شُح في الموارد والإمكانيات البشرية المتاحة، وبرغم ذلك، تُبهرك إنسانية الأطباء وتعامُلهم الراقي، وتفانيهم المخلص، وعطاءهم اللامحدود لاستقبال ورعاية المصابين أحياءً كانوا أو أمواتاً.
في ذات اليوم استقبل مستشفى هيماء حادثَي سَير، أحدهما في الصباح والآخر في المساء لـ 18 مصاباً، تفاوتت حالاتهم بين الحرجة والمتوسطة والخفيفة، استقلبهم الدكتور عادل مصطفى وفريقه في قسم الطوارئ ببشاشة وجه، وهدوء أعصاب، ورحابة صدر، دون كلل أو ملل، كخلايا نحل العسل، يسعفون المصابين، ويوجهون بعضهم البعض، وآخرون ينسّقون مع مستشفى نزوى وشرطة عمان السلطانية لنقل الحالات الحرجة عبر الإسعاف الطائر.
فما أزكاها من نفوسٍ تبذل جهدها، وتواصل صبحها مع ليلها، لتحيي الناس جميعاً، ففيهم يتجسد قوله تعالى: “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً”.
وانا أشاهد المنظر من بعيد، مشفقاً ومواسياً للمصابين بقلبي، فذلك أضعف الإيمان، وخيالي ممتزج بالذكريات الأليمة التي عايشتها في مستشفى هيماء، وصوت الأطفال من حولي وهم يمرحون ويلعبون غير آبهين بما حدث، وعيون آبائهم تدمع حزناً وألماً.
جالت في بالي ذكرى حادثة أليمة وقعت أمام عيني منذ أكثر من ثماني سنوات، بينما أنا متّجهٌ في مهمّة عمل إلى ولاية محوت، تدهورت سيارة دفع رباعي أمامي، فيها عائلة مكوّنة من ٦ أشخاص، راح ضحيتها رجلٌ وطفل، حيث كُنّا على بُعد ٨٠ كيلو متر من هيماء، وبذلتُ قُصارى جهدي لأسعف طفلين، كانت إصابة أحدهما بليغة، فلم يُسعفني الوقت لإنقاذ حياته، فقدَر الله ورحمته كانت له أقرب. حينها لم أستطع النوم لمدة يومين، فصوَر ومشاهد الحادث ما زالت عالقة في ذهني ووجداني إلى الآن، وأحدث نفسي باستمرا:
أي إخلاص يملكه أطباء الإنسانية وملائكة الرحمة؟ فكيف لتلك القلوب أن تحتمل تلك المشاهد، و أن تواجه تلك المصائب بإنسانية فذّة، وعزم فريد!
تدور الأيام وتتعاقب الذكريات الأليمة في كل موسم للخريف، وهم على مرّ السنين في حرب وجهاد، فقلوبهم صارت أكثر قوة وصلابة، تُبرق إنسانيتهم وقت الشدائد والمِحَن، فيبذلون كل غالٍ ونفيس، إنقاذاً للأرواح.
وتبقى هذه الكلمات حبراً على ورق، لَعلّي أواسي بها صبرهم، وأحكي قليلاً عن فيض معاناتهم، فقلمي باح بجزءٍ يسير من حجم الألم والمعاناة، ومكنون تلك المَشاهد وآثارها النفسيّ، وما خفيَ أعظم.