من ذاكرة الطفولة .. تجمع قهوة الجيران
سعيد بن خميس الهنداسي
يُعتَبر تجمّع قهوة الجيران الصباحيّ من الموروث العمانيّ القديم، ومن العادات السائدة بين الأهالي في تلك الفترة، وبشكلٍ عامّ لدى الأسرة العمانية في كل مناطق السلطنة، يجتمع كل بيتين أو أكثر في الصباح، وأحياناً في المساء يتناولون القهوة معاً، وهذا التجمع يُعتبر متنفساً وله فوائد كثيرة، فهو ليس فقط لتناول القهوة، وإنما لتبادل الأحاديث والأفكار والعلوم والأخبار على الصعيد المحليّ والخارجيّ، وله سماته الخاصة به وأسلوبه من حيث البساطة وعدم التكلف فيما يقدم من وجبات، وله توقيت محدد ومحترم من قبل الجميع، يبدأ من بعد صلاة الفجر.
وقد اعتادت أمهاتنا في تلك الفترة على النشاط والهمة والقيام بأعمال المنزل في الصباح الباكر، وتنظيف البيت وتجهيز القهوة والشاي وإعداد بعض الوجبات الخفيفة في بيوتهن.
وقبل شروق الشمس بقليل يتجمع الجيران في مكان محدد متفق عليه، وفي الغالب تكون الجلسة داخل بيت أحدهم، وفي المساء تكون خارج البيوت، وقد تدرّج برنامج القهوة، حيث بدأ بالقهوة والتمر فقط، ثم تمّ إضافة الشاي إلى الجلسة، ومع الأيام تحسنت مداخيل الناس فتطورت القهوة، إلى تناول “الفوالة” وهذه تسمية عمانية معروفة، يُقصد بها كل ما لذّ وطاب من الأكل مع شرب القهوة والشاي.
وبحكم تواجدي وأنا صغير في السبعينات من القرن الماضي بالخويرات مع الوالدة مدة ثلاث أرباع الشهر تقريباً، وبقية الشهر أقضيه بأريحية بالغليل مع أولاد العمّ عبدالله، حيث إني بالغليل أجد أكثر مساحة للراحة واللعب وقضاء أوقات مع الزملاء خارج البيت، أما بالخويرات فأغلب الأوقات أكون في مهمة لإحضار شيءٍ ما، مثل طعام الحيوانات أو إحضار ماء الشرب من أماكن بعيدة أو إحضار الحطب أو رعي الغنم أو بيع السمك وأمور مختلفة ومهمات عديدة وشاقّة، وبمعنىً آخر تكون مساحة الحرية والاستمتاع بالوقت واللعب قليلة جداً.
وأثناء تواجدي في الغليل في بيت العم عبد الله، كان يحضر قهوة الصباح جارهم علي بن راشد الهنداسي وزوجته شيخة بنت سعيد، ويشاركهم جارهم المعروف ب “مبارك الصائغ” مبارك بن العبد الحجري، حيث يتناولون القهوة والشاي مع وجبة خفيفة عبارة عن سويويا أو عصيده أو لولاه أو خبيصه أو جيمات أو خبز محلّى، أو قروص أو التمر أو “التمر المدلوك” تمر بدون نواة مطبوخ مع السمن أو الرطب حسب المواسم، أو شيء من فاكهة القيظ، ويتم جلب هذه المأكولات حسب قدرة كل شخص، وبشكل عشوائي دون تنسيق مسبق بينهم.
وقد حضرتُ مثل هذه التجمعات في أماكن مختلفة بالخويرات والغليل في تلك الفترة، ولكن الشيء الذي جعلني ما زلت أتذكره إلى اليوم هو حضور “الصائغ”، هذه الشخصية متعددة المواهب، فهو رجل مثقف ومطّلع ويقرأ الكثير من الكتب، ولديه حسّ روائيّ جميل، ويحفظ الكثير من القصص والحكايات، التي يقوم بسردها كل يوم علينا، ويستمر أحياناً لساعة أو أكثر، وأحياناً يكملها في اليوم التالي، فكان وحود هذا الشخص بيننا مكسب، ويعطي الجلسة معنىً وإضافة جميلة، مع أن لديه الكثير من المشاغل، فكان يمارس مهنة صياغة الذهب في بيته، ولديه أنشطة كثيرة تجارية، حيث كانت تصله قوافل البضائع من أماكن بعيدة، وبدوره يستفيد من بيعه على الأفراد، وبحكم أن لديه سيولة مالية فقد اشترى الكثير من الأراضي القريبة، كما أن الكثير من أهالي المنطقة إذا ضاقت بهم السُّبل المادية فإنهم يلجؤون إليه، مع أن وقته من ذهب إلا أنه كان يعمل بالتجارة، ويصوغ الذهب والفضة والنحاسيات، ويبيع ويشتري ويقرأ الكتب الكثيرة، ويخصص لنا من وقته الثمين، يلخص لنا منها بعض الحكايات الممتعة والمشوقة.
فلم يكن هذا التجمع المجتمعي المصغّر عبثياً، بل كان يهدف إلى تعزيز الحسّ الثقافيّ، ويمد أواصر المحبة والتعاون بين الجيران، فكان ذلك راسخاً في ذاكرة الطفولة، فجلسة القهوة تلك تعدّتْ أهدافها بما تتخلّله من أحاديث وعلوم وأخبار وسرد القصص، واليوم يحق لنا الافتخار والتعريف بها وبثقافات وعادات وتقاليد المجتمع العماني الأصيل.