الوطن فوق الجميع
عبدالله بن حمدان الفارسي
مهلاً مهلاً، ثم مهلاً يارفاق، الوطن لا يظْلِم، فنحن من يَظلم في وطنٍ لا يظْلِم، من يتنكر لأرض الوطن وترابه لا شكّ أن ميزان المعروف اختلف لديه، ومن لا يحافظ على مقدّراته لا يُرحم، ومن يتجرأ على هدم سقفٍ يستظلّ تحته، فحتماً إنه فاقد للبصيرة، فالوطن سماؤه سقف، وأرضه مأوى، وترابه تبرٌ نفيس، نعم للترميم وتحسين الجوهر والظاهر، وذلك بالتي هي أحسن، ولكن عارٌ أن نكون مِعوَل هدمٍ لكيانٍ يكتنفنا بين سمائه وأرضه.
لا يغدر بوطنه إلا من جفّتْ ينابيع الإخلاص والمروءة لديه، نعم، ليس من أخلاقنا ومكارمنا نُكران وعضّ يمينٍ امتدّت لمساعدتنا، ولكن في المقابل لا نبيع وطننا وأمّتنا وعراقتنا، ولا نتخلى عن أصالتنا من أجل ردٍّ جميل، وسيكون لنا يوم نردّ ذلك المعروف بأحسن منه، لستُ من الذين ينحتون الصواب على أبواب خزائن الحق، وينقشون بكلماتهم على مدائن الفضائل من أجل البحث عن مناجم الشُّهرة، فذلك شأنٌ ربما يكون له أهله وذووه، وأشهد أنّي لستُ منهم، ولكنّني امرؤٌ يعشق وطنه بكل مافيه، ما تحت ثراه وما فوق ثُريّاه.
حقاً لا يمكنني التصوّر، كيف لبراثن النكران والخيانة أن تنمو في قلب مواطن حصيف؟ وتتكاثر عناصر السوء والإساءة فيه؟ ولكن بطبيعة الحال فالإنسان عبارة عن عدّة مكوّنات متناقضة، ومما لا شك فيه أن تجتمع الفضائل والرذائل على كافة أنواعها ومختلف أنماطها في إناءٍ واحد، فذلك أمرٌ ليس بالغريب، فالحياة خُلقت على تناقضات عدّة، وقد تتفوق إحدى تلك التناقضات على الأخرى، فذلك ليس بالعجب أيضاً، ولكن في نهاية التصادم تكون الغلبة لمن كفّته أرجح، ولكن يقيناً لا تجتمع صِفتا الولاء وخيانة الوطن في قلبٍ واحد، فمن مبدأ الشعور الذاتيّ، ذلك من المُحال أن ترجّح الخيانة على الولاء للوطن.
لا يمكن لِذي لُبٍّ أن يخون وطنه ولو لمجرد فكرة تطرأ في ذهنه، انتقاد الوطن ليس بالضرورة أن يكون بالمجاهرة أمام الملأ، وأمام من ليس لهم علاقة بالشأن الداخلي، بإطلاق نظريات الإصلاح والمساواة، وبسط ملفات المقارنة بالآخرين بادعاء الصلاح والإصلاح، فهذا في حقيقة الأمر ذمٌّ وافتراء، وإنْ جانَبهُ الصواب أحياناً، فالوطن أكبر من انتقاده بهذه الطريقة المثيرة للبلبلة، واهتزاز أركان التعاون والتآلف بين أبنائه، وزعزة أوتاد مظلّة أمنهِ واستقراره، فإن مثل هذه الزوبعات المفتعلة هي ككلمة باطل يُراد بها باطل.
الشواهد كثيرة على ما آلت إليه بعض الأوطان، وكثيرة تلك الأحداث التي بعثرت بمقتنيات وأساسيات الأوطان وشعوبها، وحطمت ركائز معنوية ومادية تمّ العمل عليها فترات ليست بالقصيرة، لتكون بالوضع الأمثل، ولكن لرعونة تفكير بعضهم والإصغاء لوسوسة ذوي القلوب السوداء لإيحاءات ظاهرها حقّ وباطنها باطل، ظنّاً منهم أن ذلك إصلاح لِما يتهيّأ لهم بأنه يستحقّ التغيير، أوطان ما زالت تنعي نفسها وأبناءها، وتئنّ تحت وطأة المعاناة والدمار الذي لَحقَ بها، وذلك نظراً لاختلال ميزان العقل لدى شعوبها، واتّباع أفكارٍ مضلّلة هدفها الخراب والدمار، وأحياناً يكون الأمر أبعد من ذلك، وهو إفساح المجال، وفتح الأبواب للدخلاء من أجل الاستيطان والاحتلال.
إنّ أيّ مكوّنٍ لا يمكن أن تكتمل عناصر الكمال فيه مهما بلغ مبلغه من الإيجابيات، والوطن مكوّن لا يختلف عن المكونات الأخرى، فيه ما فيه من الإيجابيات، وتوجد السلبيات، لأنه بحدّ ذاته يحتوي على مكوّنات كثيرة، بدءًا من مواطنيه أو المقيمين فيه، كذلك اختلافه عن غيره بطبيعته الجغرافية والطوبغرافية وموارده الأخرى، فلا مجال لوجه المقارنة، لذلك إن أردنا الإصلاح للوطن ولأنفسنا لِمَ لا نسعى إليه -الإصلاح- كل منا حسب ما لديه من قدرات وإمكانيات؟ متّخذين منهج الصلاح للإصلاح، لا نكون نحن أداة حرب تُستخدم ضد الوطن، إن كانت حقاً أهدافنا وغايتنا صلاحه وإصلاحه.
ما أروع المَشاهد التي تجسّد ملاحم الترابط والتكاتف والتعاضد بين أبناء الوطن، ونبذ الخلافات الفكرية والمذهبية والطائفية، ورفض الانشقاق والانفصال، ما أجمل أن نكون كالبنيان المرصوص لاتهدّه الزوابع، ولا تبعثره العواصف المقرضة، الوطن حضن حنون، وحصن منيع، وقلب رحيم، لا يمكن التخلّي عنه، ولا يمكنه البراء مِنّا، طالما وجد لدينا الإخلاص له، وتنامت في قلوبنا سنابل الوفاء لأجله (دُمتَ يا وطني حراً سالماً).