2024
Adsense
قصص وروايات

لستُ قوية كما تظن  .. قصة قصيرة

   بلقيس البوسعيدية

“لقد تعبتُ وشاختْ روحي من فرط توجّعي،أنهكتني الحياة الدنيا وما عاد في استطاعتي أن أحتمل قساوتها، منذ خمسة وعشرين عاماً وحتى الآن، وأنا أحتمل منها ما لا يحتمله قلب بشر”.

  كانت تلك الفتاة المتعبة تتمتم وتحادث نفسها في غرفتها الباردة التي تنبعث منها رائحة اليأس والفناء والوحشة، حاولتْ مراراً أن تجعل قلبها يتوقف عن ضخ الدم إلى جسدها الهزيل، ولكنها لم تنجح، بدتْ أمارات التعب والحزن واضحة تماماً على وجهها الذاهب إلى الانطفاء التدريجي، ولكن إلى متى؟

 كم عليها أن تحاول لتظفر بمِيتةٍ هادئة تتسلل فيها روحها من صخب هذه الدنيا واضطراباتها إلى صفاء السماوات السبع، لماذا يعاندها قلبها دائما؟

لِمَ هو مُصرٌّ على الحياة؟

لا إجابات شافية، لا شيء سوى صمت تزيّنه موسيقى منخفضة تضفي على روح المكان هدوءً رزيناً.

 تفاجأتْ بنفسها تجرّ خطواتها إلى المطبخ، في استعدادٍ منها لتجربة أسلوب موتٍ جديد، فلربما في هذه المرة ستنجح في مغادرة الحياة بالطريقة التي ترغب بها، دون أن تثير أي ضجة، لطالما رغبت بالموت بعيداً عن أعين الناس، لقد سئمتْ صخب الحياة، واكتفتْ من طلب الشفقة.

راحت تتذكر تحذيرات والدها لها في كل مرة تدخل فيها إلى المطبخ:

  “احرصي على غلق أنبوب الغاز بإحكام يا صغيرتي؛ لكي لا يحدث لكِ كما حدث لوالدتكِ قبل سبعة أعوام، أنا أخشى عليكِ من أن يصيبكِ أيّ مكروه.”

إنها تتذكر تفاصيل تلك الحادثة، تتذكر كل شيء وكأنه حدث البارحة، لم تستطع نسيان المشهد الفاجع لموت والدتها التي زهقت روحها على أرضية المطبخ ذات يوم، عندما كانت تعدّ وجبة الغداء، انفجر الغاز في وجهها أثناء غيابها ووالدها عن البيت من أجل التسوق العاجل، عادت لتجد أشلاء والدتها متطايرة هنا وهناك بشكل مروّع للغاية. لقد تجاهلتْ تحذيرات والدها تماماً؛ لذا، اتجهت مباشرةً إلى المطبخ وقامت بفتح أنبوب الغاز ليغضّ به المطبخ ويختنق وتختنق بدورها معه.

لطالما كرهت الشعور بالخوف، لطالما فعلت، لكن لا، ليس الآن.

 كان الغاز يتدفق من فم الأنبوب ببطءٍ شديد؛ مما جعل جسدها يرتعش خوفاً.

 كان عليها أن تنتظر حتى يمتزج الغاز بجوّ المطبخ، لم تُطِق الانتظار، فحياتها الآن مرتبطة بامتزاج الهواء بالغاز السامّ، جالت بنظرها لآخر مرة حولها، لجدران المطبخ المتشقّقة، وقطرات الماء المتسرّبة من الصنبور، وكومة الأواني المتّسخة التي تفوح منها رائحة السنين، والمرآة المهشّمة من أطرافها. أرادت أن تلقي نظرةً أخيرةً إلى ملامحها الذابلة، تقدمتْ ببطءٍ نحو المرآة اليتيمة المعلّقة على الجدار مباشرةً فوق رأس الحنفية الواقفة على ساقٍ واحدة، بعدما تأمّلتْ وجهها طويلاً، شربتْ من الحنفية مباشرةً، بصقتْ ثم غسلتْ فمها وقالت: “آهٍ، تباً، تباً للحياة.” حركتْ رأسها ناحية أنبوب الغاز وقالت: “لا، لا، لا، لن افلح، سوف أفشل هذه المرة كما فشلتُ في المرتين السابقتين، ما أقوم به الآن ليس إلا ضرب من الجنون، فهذه الطريقة لن تؤدي بي للموت حتماً” وفي وسط أفكارها تلك تذكرتْ ما حدث معها قبل بضعة أشهر عندما قصدتْ أحد المطاعم الصغيرة لتناول وجبة عشاء دسمة تسدّ بها جوع بطنها، التقطتْ فاتورة الحساب من يدِ النادل بعدما فرغتْ من تناول الطعام، لكنها فوجئت بأنها نسيت محفظة النقود في المنزل، كل محاولاتها لإقناع النادل ليسمح لها بالذهاب للمنزل ثم العودة في غضون بضع دقائق لدفع الحساب باءت بالفشل، حاول الجالسون إقناعه ليسمح لها بالذهاب إلى المنزل لإحضار محفظة النقود، فرفض رفضاً قاطعاً خشية هروبها، لقد قبّلتْ يديه، لكنه طردها طرداً عنيفاً بعد أن وجّه لها الشتائم واتهمها بالنصب والاحتيال.

اختارت أن تموت بتلك الطريقة لتحافظ على كبريائها الذي انسلخت منه وهي تقبّل يد النادل، لعلّه يتفهّم نسيانها ويمنحها فرصةً لإثبات صدقها. كانت تعرف في قرارة نفسها أن لا أحد سيفتقدها، لن يبحث عنها أحد سوى والدها، ولن يحدث ذلك إلا بعدما تفوح رائحة الموت من مسام جسدها الهامد.

نظرتْ إلى الأنبوب نظرة البائس الحزين، كان الغاز يتدفق منه شلال بارد، ويمتزج بحماسٍ جنونيّ بجوّ الغرفة، مزيج ذو رائحة نفّاذة وخانقة بشعة، بعثت في نفسها القلق وأيقظت في صدرها الرعب، وتمنّت للحظةٍ أن يتوقف الغاز عن التدفق من فم الأنبوب.

كان الضوء شديداً أمام عينيها، وفجأةً فقدت وعيَها وسقطت أرضاً ولم تشعر بشيء، إلا أنها سمعت دقات متتالية على باب المطبخ، وصوت عجوز يصرخ قائلاً:

“مريم، حبيبتي، هل أنتِ بخير، هيّا افتحي الباب، افتحي الباب يا ابنتي”.

ابتسمتْ باطمئنان، وتركتْ نفسها تماماً لتفقد وعيها.

لا تعرف كم من الوقت مضى حتى عادت لتفتح عينيها على نهارٍ جديد، وجدتْ نفسها مستلقية في سريرها الأبيض الازدواجي، وبجانبها كيسٌ بلاستيكيّ شفاف اللون، محكم الإغلاق، بداخله بذور بنية صغيرة جداً، تتدلّى من عنق الكيس بطاقة صفراء معلقة بشريط أزرق رفيع، كُتب في أعلى البطاقة شيء كالاستهلال أو العنوان، يحتوي على هذه الكلمات:

 “إليكِ يا زهرتي الجميلة (مريم).”

استيقظ فضولها، فجعلت تقرأ: “لقد ذبلت الزهور البيضاء التي زرعناها أنا وأنتِ أمام المدخل في الصيف الماضي، لذلك فكّرت في أن أهديكِ هذه البذور، كي تزرعيها في أصيص الفخّار الذي يجلس وحيداً بجوار نافذة غرفتك. ازرعيها واعتني بها جيداً، اتركيها تستحمّ كل صباحٍ بضوء الشمسِ واسقيها الماء لترتوي وتزهر وتورق أوراقاً بيضاء تماماً مثل قلبكِ الصغير، امنحيها يا عزيزتي بعض الوقت والصبر، فالأشياء الجميلة تستحقّ الانتظار.

 ثقي بي، إن هذه البذور الصغيرة سوف تزهر حتماً إذا منحتِها اهتمامكِ ورعايتك. كوني شجاعة كما عرفتكِ دائماً، تمسّكي بالحياة يا ابنتي مهما بدت لكِ مُرّة وقاسية.

والآن هيّا، هيّا اسألي نفسكِ: هل أنتِ سعيدة بكونك على قيد الحياة؟”.

تهللتْ أسارير الفتاة، قالت في نفسها وعينيها مصوّبة بدفء على كيس البذور:

“سعيدةٌ بكونكَ على قيد الحياة يا أبي”.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights