2024
Adsense
الخواطر

من أعلى السطوح

عبير بنت سيف الشبلية

أكره القيود والأماكن الضيّقة والزوايا.
كما أن الأماكن العالية توتّرني، ولا يعني أني أكره السطوح، بل أنا أشدّ انجذاباً إليها.
ليست المناظر وحدها من يجذبني، ولكن ما يثير فضولي بيت جارنا المجاور لنا في السكن.
يقول والدي:
لقد جاورته أكثر من عشر سنوات، وكان مجيراً مغيثاً، حسَن السلوك، ويعامل الجيران معاملةً طيّبة.
وددتُ لو ألازمه ليل نهار، حتى أرتوي من نهر حكمته ورقّة مشاعره.
كلماتٌ لا يملّ والدي من تكرارها، وكنتُ في نفسي أثور وأنفعل انفعالاً من غير شي يوجب الغضب.
أنا كُلّي ثقة بأنه لا اختلاف يُذكر مثلما يؤكد والدي، ولا حتى ما يبعث على المتعة والإثارة والطرب.
وما زلتُ لا أعرف ما الداعي لكل هذا التبجيل والمدح المبالغ في أمره، وأبصم أنها مجرد ترّهات مجاملة ليس إلّا.
لم أكن أقوى على إبداء الاعتراض أو الاستياء، كان حكماً واجباً عليّ أن أستمع، وأرفع رايات الموافقة والتمجيد وبكل حبٍّ وفخر.
ولشدة الغيظ ألزمتُ نفسي بأن أصعد سطح البيت لأمتّع ناظري بأجمل المناظر، لم أكن أعلم أني سأقوم بمراقبة جارنا المجاور لنا، صباحاً ومساءً وبتوقيتٍ معيّن حتى لا أثير الشك.
البداية كانت فضولاً، و أريد أن أثبت مدى مبالغة والدي بشأن جارنا المجاور.

كنتُ أؤمن بأن البحث يوصل إلى الحقيقة، لذلك أجبرتُ نفسي على رصد تحركاته وما يدور في داخل بيته، والنظر من أعلى سطح بيتنا، لا يُظهر لي أدقّ ما يحدث في داخل غُرَف بيت جارنا، ولا أسمع ما يدور فيما بينهم من أحاديث.
كنت منتبهةً جداً لتفاصيل بيته الجميلة والمنظّمة.
كان دقيقاً يُجيد استغلال الوقت ثانية بثانية، بشوشاً هادئ الطباع.
لقد اعتكف في المسجد، ثم إلى بيته بعيداً عن اختلاق الأخبار البائتة وترويج الأكاذيب.

ذات صباح ومساء أيضاً أمسك بي جارنا وأنا أراقب باهتمام، توقعتُ منه أن يشتكي لوالدي الوضع غير اللائق، حتى أني تخيّلتُ والدي يدخل البيت، ومدى هَول الصراخ، وأيّ عقاب ينتظرني.
لكنه لم يفعل شيئاً من كل ذلك، فقد رجع والدي في ذاك اليوم إلى البيت مسرواً راضياً، لم يبدِ استياءً، وأنها كانت مجرد مخاوف لا أكثر.

لم أعتقد ولم أنتبه لنفسي حين اندمجت في المراقبة، وأن هناك متعة خاصة وأنا أحاول أن أتتبّع تحرّكات الجار العزيز، أصبحتُ أعشق السطوح بل كُلّي يقين بأنّا نرى أجمل المناظر من أعلى السطوح.
وكما تأكدتُ من صحة كلام والدي بشأن جارنا العزيز، لقد كان صادقاً، ووحدي كنت المخطئة، وحُكمي كان متسرّعاً ومتهوراً.
بزوغ فجر اليوم على غير العادة، أشعر بالاضطراب والانقباض.
وجاء الصبح باهتاً، بدت دقائقه بطيئة لا بريق فيها، كان يوماً ثقيلاً خالياً من الحياة، والمساء بدا كئيباً،
حتى الجار لا أثر له اليوم.
كل شيء يبعث على الملل، وأشعر بوخز، فجأةً أطلّ والدي وعلامات الأسى والحزن تكسو ملامحه، ثم نطق: لقد انتقل جارنا العزيز إلى جوار ربه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights