بضعة وثمانون ربيعاً
زوينة بنت بطي اليعقوبية
أبو علي بلغ الثمانين من العمر، ولكنه ظل بعنفوان شبابه، يروح ويغدو لا تفارق الابتسامة مُحيّاه، ولا الكلمات الحلوة شفتيه.
لم تُسقط الثمانون عاماً جدران بنيته الشامخة، فقد أحكم صلابة بنيانه مناخ قريته الجبلية، فكأنما استعار من وعورة صخورها صلابةً لا نعهدها في رجال المدن، يبدو بحاجبيه الثقيلين، وأنفه الأفطس، ووجهه بتجاعيده التي شقّتْ بطول وجهه وكأنها أخاديد، يُخيّل إليك وأنت تراه وكأنه جنديّ عاد من زمن غابر.
في ملامحه حكاية قديمة تشقّ طريقها كلما اتّجه يمنة ويسرة وهو وإن أرمدت عيناه وارتخى جفناه، إلا أن حواسّه ظلّت بكامل قوتها، تحسبه شابّاً لولا أنه يتّكئ على عصاه، ويحدّث نفسه بصوتٍ عالٍ ليختبر قوة سمع.
تشرق ابتسامته مع شروق كل شمس وتغرب مع غروبها.
لا تكاد تراه يسكت في كل مجلس، فلم يعتد الصمت، ما تنفك تراه يهرف بكل ذكرياته و سالف عهده، ولولا جهلٌ ابتُليَ به لألِف فيما مرّ عليه كتباً وموسوعات، ولكن يحرص دوماً على عدم نسيانها.
يسرد قصص ماضيه في كل مجلس، ومع كل رواية إما إلقاء أو إيماء، وكأنه يعيد تجسيد ما مرّ من حياته.
رجلٌ ألِف الحياة وألفته، فلا يتململ من موقف ولا يسأم من حديث، رحب الصدر، يعشق الحياة ببساطته، لا يميل إلى النزق، تراه متّكئاً على بيذامة تتوسط بيته العتيق يستمع لثرثرة العصافير، وقد يحدث أن تزرق عليه إحداها فيمسح ثوبه باسماً غير آبه، لا يتقزز منها، ولو غرّد حسّونٌ فتراه يرجح رأسه لموسيقى غنائه. إنه التصالح مع الذات، والتواؤم مع الطبيعة، إنه حب الحياة حتى الرمق الأخير.
ربما كانت حياة (أبو علي) أعمق من مجرد سنوات، أعمق من شهيق و زفير، أعمق من ضجيج الأطفال وتنهيدات المتعبين، وأعمق من ليل يأتي خلف نهار مسرع متعب مرهق.
الثمانون ربيعاً ونيّف في حياة (أبو علي) تمازجت فيها كل الفصول، وظلّ فصل واحد. شغف الحياة، جمال الأشياء، متعة الصحبة، عنفوان الشباب واخضرار العمر وعشق الأرض، و ربيع الأحلام المؤجلة التي كانت يوماً ما تكبر معه وتنحني، ثم تتلاشي كأن لم تكن.
الأحلام التي لم يبقَ منها سوى رغبته في الحياة، دون أن تقضّ مضجعه أوجاع الحياة وآلامها.
تبدو الثمانون ربيعاً أكثر قسوة حين يبلغها الآباء، إنها تعيدهم فجأةً إلى الوراء، إلى الطفولة مجدداً، ولكن دون أمٍّ أو أبٍ أو إخوة كبار، دون صحبة ودون أصدقاء، ودون شغف بالحياة.
العودة بعد كل هذه السنوات مرهقةٌ جداً، العودة بعد هذه السنوات غربة، سفر لوطن رحل كل من فيه.