البائعة
مريم شملان
تجلس وتتفيأ ظل الشجر وترتاح عند وصولها المنازل لهذا الحي، قضت طوال النهار تمشي وتحمل بضاعتها في “صرة كبيرة ” تضعها على رأسها تارة وعلى كَتفها تارةً أُخرى لكسب الرزق والعيش الكريم، ومن ثم تَكمل مشوارها وهي على ذلك الحال، ومع اقترابها من المنازل تُنادي من بعيد وبخطوات بطيئة، يصدح صوتها: “أبيع
الخيلة، والنيلة، والصركة صالح، خواتم قلوب البنات”. وعند رؤية صغار الحي لها يهرعون إليها ويصيحون: “وصلت البائعة”، ويستمرون بذلك حتى تكرمهم وتجود لهم بالحلوى أو مما كان لديها، وصولاً إلى الظل حيث يَجتمع النسوة عند أكبرهن سنًا أو مكانة؛ لتلقي السلام ولِيجلسن وتأخذ من مجلسهن مكانا لترتاح وتغتسل بالماء البارد، وتلتقط أنفاسها من المشوار الذي قطعته، والانتظار حتى ما بعد وجبة الغداء، حيث تجمّع النسوة وقت العصر لرؤية ما أتت به البائعة في وقت الهجع وراحة الناس بعد قضاء صيف شاق بعد إن أتموا الحصاد لمحاصيلهم، وقدوم بدايات الشتاء والنسمات الباردة، والتي بدأت تأتي من البحر محملةً ببشائر الطقس البارد بعد أشهر من حرارة الصيف والرطوبة لنضج الثمر من التمور والليمون وبعض أشجار السواقي التي تُزين أحواض المياه بِثمارها الناضجة.
ذهب الصيف وبدأت الريح الباردة تُبشر بالمطر، والليالي الحالمة التي تَسكن المنازل، والخيام المغروسة في الأرض بجذوع النخيل، وقد شُدت بِحبال من “الليف” وأطمأن
أهلها أن لا خوف من رياح عاتية أو مطر شديد، لِتغيب الشمس، وتقضي البائعة الليلة عند من حَلت ضيفة عليهم، وتأتي النسوة من الجارات والقريبات إلى منزل من يقربن لها للأنس والاستماع إلى قصص الزائرة وأخذ ما يرغبن به من القُماش والعِطر، والبُخُور والعود، والصندل.
ويأتي الصباح، لتبدأ يومها بشرب القهوة وما يؤتى لها من طعام، وتُكمل طريقها لتستمر حياتها بقطع المسافات الطويلة؛ ليصدح صوتها ويملأَ مسافة الطريق بين حين وآخر بالغناء والتلاحين الجميلة،
والسلام على المارة والمعارف، والبيع لهم وأخذ مبالغ المرات السابقة التي أتت فيها إليهم، فهي زائرة كاسبة لِودهمْ، والمؤتمنة لهم للشراء من بِضاعتها، الواثقة بهم مرات عديدة في الإيفاء بالمتأخر لها من مرورها بذلك الحي أو غيرها من الحواري الساحلية أو القرى أو مَواطن البدو وخيامهم ومساكنهم البسيطة، والتي تكون بعيدة ومتناثرة في الصحراء والأماكن الشاسعة، وبكل المواسم، البائعة تواصل المَسير والتنقل والنوم بأي منزل تصل إليه قبل حلول الليل.
والتآلف مع جميع المُحبين لها والأصدقاء الذين تعّودوا وجودها وزيارتها لهم، وأحيانا تَجلب ما قد أوصُوها وبما يرغبون به. تأتي قاصدة لذلك مع كسب الثقة من أصدقاء أو معارف في تلك الحواري والقرى، واهتمام الناس بقدومها ووداعها في كل مرة دون أن يعلموا من تكون، ومن أين تأتي، سوى أنها تُخبرهم أنها من بعيد، وتذهب وتختفي وتعود، وهكذا تستمر ما استمرت الحياة والبقاء، لتمر السنين بأيامها وشهورها ومواسمها ويختفي أثر تلك السيدة التي تصدح وتغني وتمزح مع الجميع، وتختفي البائعة التي حفظت أسرار البيوت، وشاركت الفرح والسعادة لأمهات بإنجاب أطفالهن، أو زواج لابن أو ابنة، أو وداع وحزن، وفراق لزوجات وأزواج وأمهات وأباء، وأقارب وأصدقاء، ومعارف وأحبة، انقطع الصوت الشادي، واختفى الأثر لسنوات طويلة، حتى في يوم شتوي بارد كانت قد افترشت خلف منزلها الصغير الحصير، وتدثرت بالشال لِيقيها لفحات الرياح الباردة، واضعة أبريق يغلي بالقهوة في “موقد” أمامها، تَكرم من يمر عليها بفنجان من قهوة وحبات من التمر. يُحدثونها، يُخبرونها بأسمائهم، وأسماء آبائهم وأمهاتهم، وأسماء العائلات، تتذكر من لم يستطع النسيان أن يحذف ما نقشته سنوات قد مضت وولت، ومن لا تستطيع تذكره تتمتم بكلمات بسيطة:” لقد نسيت “، وتُكمل مسيرة الصمت الذي يطوي على قلبها الحزن، والوحدة؛ بالوصول إلى نهاية المشوار الأخير.