شجرة المانجو
عبدالله بن حمدان الفارسي
في هذا الوقت من السنة، كنت أستهوي الجلوس تحت ظلّ شجرة المانجو وارفة الظلال، كثيفة الأوراق، شديدة الاخضرار، في مزرعة العم حمد، الواقعة بالقرب من بيت السعف المتواضع، الذي كنّا نستأجره خلال فترة الصيف، لا سيما وقت الظهيرة، عندما يخلد الناس باستثناء القلة منهم ومن هم في سني، لأخذ قسط من الراحة بعد تناول وجبة الغداء (القيلولة)، وأكون في وضعية الاتّكاء على جذعها الكبير والجذور ذات الضخامة المترسّخة في عمق الأرض، تزكم أنفي رائحة ثمرة المانجو، وأشجار الليمون، والنخيل ذات العذوق الذهبية المتدلية كأنهنّ الغِيد في ليلة فرح، والنباتات الأخرى في نسيجٍ متداخلٍ متجانس مع بعضه بعضا، يطيب لي لحظتها الافتراش فوق الأوراق المتساقطة والمتناثرة على الأرض، مستظلاً بظلّ تلك الشامخة – شجرة المانجو.
لا أتذكر تحديداً بداية علاقتي بهذه الشجرة، لكن الكثير من التفاصيل معها لا تغيب عن مخيلتي، إلا تاريخ بداية لقائي بها، لم أتمكن من تذكره، جرت العادة في الماضي أن أهالي المناطق الساحلية اعتادوا النزوح للمناطق الريفية في الولاية أو الولايات الأخرى حسب إمكانيات الأسر في فصل الصيف؛ سعياً وطلباً للراحة والاستجمام، وهروباً من لفح الحرارة وقساوة الرطوبة التي تتميز بهما ولايتي، وكذلك للقرب من المنتوجات الزراعية المتنوعة التي يختص بها هذا الفصل، وأيضاً لوفرة المياه العذبة الصالحة لكافة الاستعمالات.
زيارتي لشجرة المانجو تلك لم تعد مألوفة كما كانت في السابق لأسباب عدّة، سأذكر بعضها لاحقاً، لكن في الوقت ذاته أحبّ استحضار تلك الذكريات في ذهني، لا سيما في هذا الفصل، وذلك لروعتها وما تكتنفه من مشاهد ذات دلالات فيها، ففيها من الصفاء الذهني والبراءة الشفافة والشغف اللامتناهي من التأمل، ومرافقة الذات إلى أبعد ما يكون، إن عدم التزامي بالوفاء بزيارة صديقتي-شجرة المانجو- إن جاز وصفها بذلك، لأن لا المكان ولا الزمان بقيا على حالهما، تغيّر وجه المكان لدرجة أصبح من الصعوبة بمكان التعرف عليه، فلم يبقَ منه شيء يمكن التعرف عليه إلا القليل من الملامح التي سيكون لها نصيبها من الاندثار النهائي قريباً.
فالشجرة ذاتها لم تعد في مكانها، فقد تجرأت عليها عوامل العصرنة والتجديد باجتثاثها وحرق ما تبقّى منها، فالإحلال غير الممنهج من العمران سطا عليها وعلى من كان معها ورفيقاً لها.
ليس في الأمر غرابة حينما يتخذ الإنسان صديقاً أو مؤنساً من غير جنسه، والأمثلة على ذلك كثيرة وملموسة ومجرّبة، فبعضهم يعتاد على زيارة البحر، والآخر يحبّ الجلوس في مكان ما، أو في زاوية ما في منزله عندما يشعر بخطب ما يقلقه أو يؤرّق مضجعه، مسألة الانصهار والتوغل والانتماء لأشياء مخالفة لجنسك هو أمر طبيعيّ، خاصة عندما تألفه وتستأنس الوجود فيه أو معه، ولا تجد حينها من بنِي جنسك من يفهمك في صمتك أو من نظرتك أو حتى في بوحك، حتى أن بعض الناس علاوة على عدم الفهم لا تجد منه غير اللوم والتوبيخ عند الإفصاح له عن مكنون ذاتك، ربما هو إلهامٌ خفيٌّ بينك وبين من تستشعر بالارتياح إليه أو معه من الكائنات غير البشرية، بالتأكيد ويقيناً بأن الله وراء ذلك الارتباط، وهو من يبثّ فيك الارتياح النفسي والإلهام وتتجلّى أمام بصيرتك الحلول المثالية لمجرّد وجودك في أو عند ذلك المكوّن أياً كان.
الخلاصة: ليس بالضرورة أن تكون العلاقة الودّية مع الجنس ذاته، هذا ليس تحريضاً على تجنّب العلاقات الإنسانية بمختلف أنواعها الودّية، فالإنسان بطبيعة الحال هو مرتبط ببني جنسه ولا غنى له عنهم، ولكن الأمر يتعلق ويتوقف على الارتياح النفسيّ للمكوّن الآخر، وإن كان ثمّة اختلاف في النوع والشكل، كذلك أن الناس ليسوا كأسنان المشط يجمعهم تشابه في كافة المستويات والمحتويات، ولا بدّ من وجود اختلاف في النمط الحياتيّ، وخلاف في وجهات النظر، تلك الخلافات والاختلافات قد تصل لمستوى الاقتتال والتناحر، وهذا لا ينفي عدم وجود ذلك مع الكائنات الأخرى، المسألة حتماً تتوقف على التفهّم والتفاهم والرضا النفسيّ.