من المهد إلى البندقية..
شريفة بنت راشد القطيطية
لا تعدو أرواحنا متلهفة وراء نبض، إلا إذا سيطر ذلك النبض على كياننا المبتذل وحرائقنا الداخلية وقت النوم، لا شيء يمر إلا العمر، أما الأحداث فتتأتأ ليستقيم النطق بقول لا حول ولا قوة إلا بالله، تستدرجنا البراءة ونفضل أن نكون على ضفافها أحصنة عطشى تباغتها التخوم المترامية لتأخذنا عنوة لسير مختلف عما أرادته، والفارس كان ينتظر لحظته تحت شجرة في مروج خضراء بأحلام وردية، كطفل أراد اللعب حتى المساء.
أريد الأحلام تعبق في ثيابي كرائحة المسك، وترسم على حاجبيها تركيزا ودقة لتأخذنا إلى ميادين الرجال، تخلط أرواحنا بالرمال وتهذب أصابعنا لحمل البندقية، بالأمس كنا نعدو كالفراشات ونحط على مقاعد الدراسة كأي صورة على جدار مهجور ..بدون سرور وبدون انحراف، وكان مهدنا باسما مطرزا بالضحكات، معتلا مساؤه يتخذ من الليل الهدنة واستراحة محارب، كنا لا نأبه بالوقت ولا نهدر طاقة ولا نتحدث حتى، كان كل ما يأتي من الراحة مرغوبا، وأصول الاعتماد على النفس مسلوب حتى جاء اليوم لنطرق باب البنادق ونتحدث معها عن الغيمة التي كم ساقت بنا فوق فصول وفضول.
كان يأتي من الغيم بريئا وكعادة الغيم نقيا ومملوءا بالطهارة، هكذا كانت حياتنا هادئة وممتنة للوفاء، وكان كل شيء يأتي مع الوقت إلا الوجع كان يعكر صفو الوقت ويحملنا ما لا طاقة لنا به، ويهدر أوصاله ليعبث بصبري ويربك أولادي، ويعكر صفو البيت، كان يستمر بالرقص على أوتار قلبي ويمتحن تحملي، ويصنع من آثاره بندقية ملأى بالذخيرة، وكنت الأخيرة فيمن يعدل مزاج الأهداف ويلتقط السمو، لم يكن للوجع سمو، وكان لا بد أن يتخذ قراره ويأخذهم إلى حين الابتعاد سيد الموقف، وكان للبنادق صوت يشبه صوت الرعد، وكم كان يعتصر قلبي ويجري أنهارا من الدموع، كنت أعد المهد لأطفالي وأرضعهم صوت البنادق، وأعدهم للحرب مع النفس أولا قبل البندقية.
كمية أنفاسك أطرق بها سمعي وأبحث عنك بين ملايين الثواني التي تمر وأنت بعيد عني، لم تزل تحركاتك تبهر مخيلتي بالجمال وتجعلني أبتسم كلما عاد وهجها من جديد، ما زالت تشتد علي لحظات أختنق بها وأنت وحيد أتخيلك تائها في صحراء ولطف الله يمد لك العون، كنت على استعداد أن أخبئ البنادق جميعا ولكني أدركت متى يكون الرجال أبطالا، وقت الشدائد ووقت المحن، لن يكونوا أحصنة برية كان لا بد من الترويض ولا بد من السجال، والغلبة للمهد الذي صنع رجالا، وأتى بهن إلى حيث البطولات تنقش على جدران الشمس.
كان لا بد أن أصبر أكثر وأوثق طرف الحدق حتى لا يذرف الكثير من الشوق والدموع، وكان لا بد أن أهدأ وأنتظر طلوع الفجر ليأتي بك قائدا عظيما لتحكم مملكة العز والكبرياء، وكان لا بد للبنادق أن توثق علاقتها بالمهد وتصنع رجالا في مقتبل العمر، بيارق في ساحات المعارك، حماة وقت الرضوخ، جدالا مرا وقت الحسام، وهديرا منهمرا وقت الاشتياق، ستأتي بك البندقية محملة على كتفك وتمسح عنها غبار الطريق، ستأتي وكلك شوق إلي لأعدك الصقر الهمام، والفهد الذي لا يرام، ستكون بين حدائقي ولها يطرز الأهوال ويسكبها في فنجان الشاي وقت المساء.