“فلسفة التفاضل.. والأقرب”
د.خديجة الشحية
كالعادة، ظللت أنظر للمحيط الذي كنت أجلس فيه، حتى شد انتباهي كرتون كبير تختبئ بداخله دجاجة مع صغارها وعدد كبير كانوا معها، راقبتها بتمعن وتركيز.. لا أدري لمَ كنت أراقبها، هل لأن المحيط فارغ من الأهمية ومن أي شيء مهم في تلك اللحظة التي شرد ذهني معها ومع صغارها الصيصان، أم لأن وضعها الغريب تحت ذلك الكرتون كان ذا أهمية بالنسبة لي؟! يجوز..
الأجواء بالخارج كانت جميلة ومفرحة وهي تحت الكرتون مختبأة، فعلا دجاجة!!!، فجأة، أحدثت صوتًا عندما قلبت كرتونها وأخرجت بعضًا من صيصانها، وكأنها تقول لهم.. “ازدحم المكان بكم معنا، هيا خرجوا وجدوا لكم مكانا بعيدا”. ورجعت مجددا لتقلب عليها ذلك الكرتون.. ولم تترك أي فتحة لدخول الصغار، استغربت من وضعها، هل هي متعقلة بذلك التصرف!!!، هل كانت تقصد شيئا من تصرفها!!! أيا يكن مبررها.. فهي قد تخلت عن صغارها.. ظل الصغار يحومون حول الكرتون لمدة طويلة، حتى انصرفوا بين الأشجار يبحثون لهم عن ملجأ آخر لكي لا تدوسهم الأقدام.. فهم بالكاد يرون من صغر حجمهم. بعدها رجعت الدجاجة لقلب الكرتون مرة أخرى، وأخرجت مجموعة أخرى وكأنها تأمرهم بالانتظار حول الكرتون حتى تهيئ لهم مكانًا مناسبا بالداخل، وظلوا ملازمين للكرتون بدون حراك، وكانوا مطيعين لدرجة أنهم ربضوا فوق الحشائش التي بجنب كرتون “الماما دجاجة” متأملين ألا تهمشهم مثلما همشت بقية إخوتهم، عجبت من هذه الطواعية! وهذا الخضوع الذي فيه الكثير من الصبر والمغامرة منهم؛ لأن بذلك الوقوف والانتظار خارج الكرتون فرصتهم ضئيلة وقد تأتي أفواه قد تبلعهم ويصبحون في خبر كان، والأم غير مدركة حجم الخطر الذي قد يتعرض له أبناؤها وهي بتلك المزاجية وقلة الإنصاف والتمييز الذي تتعامل به معهم.
كانت عيني على الصيصان الذين أُستغني عنهم وبقوا تحت الشجر بلا حاضنة تحتويهم ولا أم تحنو عليهم، يا للقسوة والجبروت! وعلى إخوتهم الذين ينتظرون الدخول مجددا لداخل الكرتون.. كلها ثوان، ورفعت “الماما دجاجة” كرتونها لتدخل المجموعة التي أخرجتها مؤخرا وأغلقت كرتونها عليها غير آبهة بمن أخرجتهم في البداية وكأنهم لايعنون لها شيئا ولا يشكلون لها بذات الأهمية لمن هم متكورون معها في كرتونها ذلك، وظللت أراقبها لمدة، لعلها تفتح الكرتون وتنتشلهم حيث كانوا وترجعهم معها، لكنها لم تفعل، حتى مر مجموعة من الصبية الصغار ووجدوهم هبة إلهية قد وضعت لهم بين تلك الحشائش.. حملوهم معهم بكل عناية، حتى غادروا بهم في سيارتهم التي اختفت عن الأعين سريعا. راهنت على إحساس الأم قد تخرج وتبحث عنهم بعد أن يصلها شعور فقدهم للأبد؛ فهم أبناؤها أيضًا، إلا أن ذلك لم يحدث! ترحمت حينها على المشاعر التي ماتت فيهم كطيور، وفينا كبشر…!
ما حدث مع الدجاجة وصغارها يحدث كثيرًا في مجتمعاتنا وفي بيئات مختلفة وقد نشهد تلك الأحداث بقوة فيها، ونستنكرها بشده غير مدركين ولا منتبهين أننا نقوم بها دون أن نشعر. نعم، هناك مجموعات تربت على بعضها، وغيرها تطرد بعضها، وغيرها الآخر تكيد وشعارهم البقاء للأقوى. ليس بالضرورة أن يكون ذلك القوي عادلا وأمينا ومنصفا، المهم أن يستحوذ على مكان له، وكما يقال “إن سلمت ناقتي ما علي من رفاقتي”، هذا الصراع ليس بجديد، ولا مكان للضعفاء بينهم.. لا مكان لمن ينادى بالمساواة والعدالة.. اعتدنا سماع ذلك وتمضي الحياة وهؤلاء الجبابرة مسيطرون هنا وهناك، الغريب في الموضوع هو حدوثه أمام أعيننا! ويأتيك صاحب فلسفة مشوشة ومحنك بالتمويه والاستغفال ليحاول إقناعك بأن كل ما يحدث منطقي وطبيعي وقانوني، وهذا قانون الطبيعة والحياة البشرية و…إلخ، وكأننا لا نرى التجاوزات ولا نرى ما تعج به الساحة من ملوثات ووباء مستشرٍ يرمي بظلاله على كل شيء، عندما تلحظ ما حولك فهو مليء بتلك التناقضات ولا تملك غير الاكتفاء بالصمت ومراقبة الوضع.
أستحضر تلك المقولة “البطن إن لم تجد ما تأكله،، فهي تهضم أمعاءها لامحالة”، وهذا ما سيحدث بينهم وبين من يقربونهم، لهم على حساب غيرهم من المستحقين.. عجلة تدور وتلف، تنزل هذا وترفع ذلك، سننتظر لنرى ما سيحدث في المشاهد الأخيرة.