رحلوا، ومَنْ مثلهم!
مياء الصوافية
أرى قوافل الراحلين تتوالى يا أبي، ممن صاغوا نفوسنا على جمال الفطرة، وعذوبة اللحظة أولئك الذين غرسوا في أعماقنا بذور الجدّ المدّخر لمستقبل العزة للأرض الفتية، والتي ما زالت ترضع من لبن الأمومة الواحدة، وترنو للأمل كأنه ماثل أمامها؛ لأنها أقامته على مبدأ الضمير الحيّ، كل هذا نراه عند توالي أيامنا شيئاً فشيئاً. بحثنا عن كل ما هو حميد، ونراه ضميراً يربطنا بقيَم عجيبة تحتضن تراب الأرض؛ فيلفظ مِن نداه مروءة تنبهر بنُبلها القلوب.
رحلوا، وكان للمكان جمال بهم، و للحياة معنىً؛ فبهم انتعش الأمل في صدورنا، ورابطنا – منبهرين – على أصالتهم التي شعّت من جلباب طهرهم، وامتداد رؤيتهم التي هي ثابتة العزم، ماضية اليقين.
ننحني إجلالاً لمن عظّم صولاتهم وجولاتهم، وهم يحامون عن حياض كلّ صحيح، متأبّطين له الفكر الثاقب، والأناة المتروية، سائرين بخطاهم المدروسة.
أجل رحلوا، لحقوا بك، لم يبقَ أحدٌ يا أبي، ممن عاشوا معك شطراً من أيامك، بالأمس نودّع، واليوم نودّع، لم يبقَ أحد يا أبي، رحلوا من هم مثلك ومعك، أنتم يا من إذا أقمتم بمكان حلّ الجلال ورابَط على حدود قلوبنا وعقولنا، وتتولد البركة من اليسير إلى العظيم، ومن البسمة إلى الأفراح الهازجات، ومن الكلمة إلى أسفار الخيرات.
رحلوا يا أبي، لم يبقَ أحد ممن شاطروك بعضاً من زمانك ممن عرفوك، مَن إذا رأونا تذكروا أيامك المباركات.
رحلوا وتركوا ذكراهم تتربع على سطور الأحداث التي تمرّ بخواطرنا، رحلوا وما يزال الجرح ينزف، وأضافوا إلى نزفه ألماً آخر.
رحلوا، والمكان في وقع صدمة لا عودة، الجدران في صمت لكننا نسمع أنّاتها، لا صدىً لأصواتهم يتردد، ذلك المقعد المهيب حين كان يلملم حبال الوصال، ويجعل منها طعماً للسعادة وارتواءً للمحبة، أصبح ذاته وحيداً منزوياً، يسأل عن الروح التي غادرته، أصبح وكأن ألواحه تتشقق، تنوي الفرار من ظلمة الوحشة التي ألمّت بها؛ فالمقعد يزخم بأنَّاته كأضعلنا التي يكاد أن يبريها وجع الصدمة، وتكويها نيران الحنين.
تيبّست الكلمات، باتت ترتجف وهي عارية بين شفاهنا؛ قد جردتها الصدمة، باتت مكبوتة، كأن معانيها غاصت عنها إلى أعمق الأعماق، ففقدت مدلول معانيها، وأنزوت عن معانٍ تشابهها.
تلك الغصة كأنها دخلت في قعر الأعماق، تنتظر من يفتح لها مجرىً لترسل الأنّات مسترسلة، تجاوبها الأصداء المتوجعة التي ما زالت تعزف مع الريح قيثارة الحنين، على امتداد السهول، حين الأشجار تتعرّى من أوراق الحياة، لتبدأ فصلاً ثلجياً جديداً يغطّي الحياة، لتصبح وكأنها في مدفن الذكريات.
رحمك الله يا أبي، ورحم الذين لحقوا بك وعشنا معهم جمال اللحظة، ومعنى الحياة، صابرين راضين محتسبين الصلوات من ربنا والرحمة، وندعو الله أن يكتبنا من المهتدين؛ فنحن لأمره طائعون، وبقضائه وقدره مؤمنون.