كن.. (كينتسوغي)…
سيف بن نبهان بن حمود العبري
يحكى في الأثر الياباني عن أحد القادة العسكريين الصينيين، بأنه كان يمتلك كوباً أهدي إليه من زوجته المتوفاة، التي كان يحبها حباً عظيماً لدرجة تعلقه بكل ذكرياتها، وهذا الكوب كان أحد الأشياء المتعلق بها كذكرى بعد رحيلها، فلا يشرب شربة إلا من هذا الكوب؛ سواء أكان ساخناً أم بارداً لينعش ذاكرته بها.
وفي إحدى الحروب التي خاضها سقط الكوب وانكسر لقطع صغيرة، مما تسبب في نكسة نفسية عميقة في قلبه وكأنه فقد جزءا كبيراً من قلبه وروحه، فأصابه المرض والهزال وفقد الشهية.
كان الجنود يعلمون سبب انتكاس حالة قائدهم الصحية، وفقده للكوب هو ما جعله بهذه الحالة.
فاقترح عليه أحد الجنود بأنه سيصلح له الكوب وسيبحث له عن أحد الحرفيين في اليابان الذين كانوا مشهورين بصناعة الخزفيات، فوافق وأعطاه إياه على أمل إصلاحه لما يعنيه من القيمة النفسية في قلبه، فذهب الجندي بالكوب المكسور ليبحث عن أشهر الصناع الحرفيين المحترفين، وتوصل إلى أحدهم وأخبره بقصة القائد والكوب، فأخبره بأنه قادر على إصلاحه وسوف يجعل الكوب أفضل مما كان عليه، ولكن يحتاج لبعض الوقت ليفكر بطريقة مذهلة.
وبالفعل توصل لطريقة ليجعل من الكوب المكسور تحفة أفضل، فقام بوصل القطع المكسورة ببعضها بعضا بإذابة الذهب بين الكسور وإلصاقها كما كانت؛ مما جعل من الكوب أكثر جمالاً وأغلى ثمناً مما كان عليه، وعالج الكسر بالذهب ليشكل بين تجاويف الكسر لمعانًا وجمالاً!
وأصبحت هذه الطريقة معروفة باليابان تحت مسمى فن (كينتسوغي) والتي تتكون من كلمتين ( الذهب = kint) و(الإصلاح والتجميع = sugi) وذلك بترميم القطع المكسورة بالذهب أو الفضة، وما زال اليابانيون والصينيون مهتمين بهذا الفن لترميم الأشياء الثمينة من التحف والتماثيل والخزفيات، والتي تعني لهم الشيء الكثير من الذكريات على النفس والقلب لتصبح أكثر جمالاً مما كانت عليه؛ وهكذا هو فن (كينتسوغي) يجعل من الأشياء المكسورة أفضل مما كانت عليه وأكثر قيمة وأهمية.
فلو تأملنا هذه القصة في واقع حياتنا، فربما في يوم من الأيام تكون أنت كالخزف المكسور وتحتاج لمن يرمم لك كسرك وروحك، وهكذا هي الحياة يوم لك ويوم عليك، فنحن البشر نحتاج من يجعل من كسرنا جبرا وسكينة وأمانا، وهناك دائماً شخصية (كينتسوغي) في حياتنا، حيث يرمم الأشياء المكسورة بداخلنا وقد يكون هذا الشخص ( الأب – الأم – الأخ – الأخت – الصديق)؛ لذلك عندما تجد هذا الشخص حافظ عليه.
هناك كثير من الأشخاص يعانون العزلة التامة ويفتقدون من يقف معهم ويسندهم في عثراتهم؛ مما يزيد حالته كآبة، ولا يجد من يرمم روحه المكسورة ويعيده للحياة ليستعيد نفسه وشتاته، ويفقد بوصلة الطريق للعودة لطبيعته، ويتمزق داخلياً ومعنوياً ولا يجد ذلك الشخص الاستثنائي في محيطه، ولا نختلف بأن أفضل ملجأ للإنسان هو الله عز وجل، ولكن هنا نتحدث عن ذلك الاستثناء الذي يجب أن نحافظ عليه على مستوى علاقاتنا مع الآخرين.
فإذا وجدت ذلك الإنسان (كينتسوغي) الذي يرمم ما بداخلك فحافط على علاقتك به؛ فليست كل الأيادي والقلوب ترمم قلبك وروحك وتنتشلك من كسرك.
يجب أن يتعلم الإنسان بأن يكون شمعة مضيئة في حياة الآخرين، ولا يخذل أهله وأصدقاءه ومن يرى فيه طمأنينة وسكونا لنفسه، بكلمة أو نصيحة أو توجيه، فربما تكون أنت طوق النجاة الذي يبحث عنه في شتاته وغرقه، ولو بكلمات بسيطة تعطيه دفعة معنوية ليقف على قدميه وتزيل الغشاء القاتم الذي أرهق بصيرته.
فكن (كينتسوغي) يرمم قلوب الآخرين بكلمات ذهبية؛ لتجعل من كسورهم وندباتهم المتمزقة جبراً براقاً، ويبقى أثره في قلوبهم للأبد ولا ينقطع أجره لك، ولا دعاؤهم لطيب الأثر الذي زرعته في نفوسهم يوما ما.