شجرة الزام (الجزء الثالث)
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
يحيى وهو يحمل ذلك الطفل بين يديه يذهب خياله إلى حال زوجته (آمنة) إذا قدر الله ولم يعد بالطفل.. هل تتحمل فقده بعد أن وجدت فيه الأمل.. داخله مقتنع بأن هذا الملاك الذي نزل عليهما ليس لهما وقد يرحل سريعا، فقد كان مجرد زائر وليس ذنبه أنهما تعلقا به كثيرا وكأنهما يعرفانه منذ سنوات.. كما أن يحيى كان يرجو أن يحدث أمرٌ يجعل الشيخ هاشما يلغي فكرة الذهاب لمركز الشرطة ويأمره بالاحتفاظ به.. ولكن كل هذا مخالف للقانون وهو يعرف كم يحترم الشيخ النظام والقانون ولا يتعداهما في حياته.. طوال الطريق يحيى يخاطب ذاته ويمعن النظر في الطفل وأحيانا يقترب من جبينه ويطبق عليها قبلة حارة وكأنه يودعه..
يحيى ناداه الشيخ هاشم .. لم تقل شيئا من تحركنا من البيت.. تحدث يا رجل وقل الذي في خاطرك.. يرفع رأسه وينظر إلى الشيخ وفي محجر عينيه دموع محبوسة ومع تنهيدة خرجت من جوفه قال: لا تجعلهم يأخذونه منا.. ويضمه لصدره بقوة ويبادله الطفل بالتعلق في لحيته وهو يبتسم له.. رفع الشيخ يده ووضعها على كتفه مهدئا له.. لا تخف.. هون عليك.. سأبذل كل ما بوسعي حتى يظل الطفل لديكم.. فرح يحيى بكلام الشيخ فهو يعرف المكانة التي يحظى بها عند المسؤولين في الجهات الحكومية المختلفة .
يبحث الشيخ هاشم عن موقف حتى يركن به السيارة ويبدأ قلب يحيى في الخفقان بصورة متسارعة وأحس بأن قدميه لا تحملانه ولا يستطيع النزول .. يغلق الشيخ بابه ويذهب لعنده ويمسك بيده مساعدا له في النزول.. يتحرك مثقلا ومجبرا يود لو يعود من حيث أتى والشيخ هاشم يحاول التخفيف عنه.. كانت المسافة بين السيارة وباب المركز بسيطة ولكن يحيى قطعها في وقت طويل ممسك بذلك الطفل بين يديه.. يتقدم الشيخ ويدخل ويلقي السلام على الأفراد في الاستقبال .
ينهض أحدهم : أهلا وسهلا الشيخ هاشم .. كيف ؟
يرد عليه الشيخ بابتسامة عرضة أهلا .. أحمد .. الحمد لله أنا بخير وعافية.. كيفك أنت وما أخبار والدك ؟
• الحمد لله نحن جميع في صحة وعافية.. تفضل بماذا نقدر أن نخدمك ؟
• إذا ممكن نريد مقابلة الضابط.. ثم يستدرك الشيخ هاشم السؤال بسؤال آخر .. من من الضباط اليوم موجود ؟
• بإذن الله تعالى لحظات نأخذ لك الأذن بالدخول .. اليوم الضابط (أمين) موجود .. أنت تعرفه ؟
• طبعا أعرفه .. سوف أنتظر حتى يأذن لنا بالدخول.. يذهب الشيخ هاشم ويجلس إلى جوار يحيى ويحس بخوفه وارتعاش أقدامه ويلاحظ التعرق على جبينه وينظر إليه بنظرة عطف ورحمة بدون أن يكلمه .. خلال ذلك يأتي الشرطي وينادي الشيخ هاشم .. تفضل شيخ، الضابط أمين في انتظارك .. ينهض ويطلب من يحيى المكوث في مكان حتى ينظر الأمر مع الضابط أولا .
هناك ( آمنة ) تعيش حياة القلق على النتيجة التي سوف تكون بعد عودة زوجها من مركز الشرطة فالأخبار قد وصلت إليها بأن يحيى والشيخ هاشم ذهبا إلى المركز .. القرية ليس لها حديث اليوم غير قصة الطفل الذي وجده يحيى تحت جذع شجرة الزام .. النساء في القرية بدأت في نسج الإشاعات والكثير من الخرافات فتلك العجوز (شيخة) تدعي أن مثل هذه الحادثة صارت عندما كانت صغيرة قبل أكثر من سبعين عاما كذلك وجد والدها طفلا تحت الزامة الأم، ولكنه لم يعش طويلا فقد أخذتها مرة أخرى .. الكل لم يصدق قصتها التي اختلقتها من الخيال فكيف بشجرة تنجب طفلا .. وجاءت أم خميس بقصة أخرى كانت قريب أن يصدقها الجميع يحيى متزوج من خارج القرية وحملت زوجته وأثناء عملية الوضع اختارها الله تعالى فلم يجد مخرجا حتى لا ينكشف سره فاختلق هذه القصة .. أصبح يحيى والطفل مجالا واسعا لتلك الحكايات وآمنة لا تنتبه لأي شيء منها كل همها ذلك الطفل يعود لحضنها ليكن ابن من يكون .. طرقات على الباب تهرع مسرعة إليها فلعل يحيى عاد ومعه البشارة .. تفتح الباب .. ولكن لم يكن يحيى وهذا شخص آخر ..
• السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
• وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ردت عليه آمنة وهي مستغرب من حضور هذا الرجل إلى بيتها ولم تتنظر طويلا.. تفضل
• جزاك الله خيرا .. لقد اتصل بنا الشيخ هاشم من مركز الشرطة وهم يطلبون حضورك هناك
• مرتبكة .. أنا لماذا ؟
• الحقيقة الشيخ لم يوضح لنا الأمر فقط أمرنا بأن نأخذك إليهم .. وعسى الأمر فيه خير فلا تخافي.
• تنظر إليه .. بإذن الله تعالى انتظرني قليلا أحضر عباءتي .. دخلت آمنة إلى المنزل وخلال ذلك يصرخ عليها الرجل .. لطفا أحضري الملابس التي كانت على الطفل .. لم تنبه لطلبه وعادت وأشارت للرجل أنها جاهزة للذهاب يعيد عليها الطلب من جديد : لقد طلبت منك إحضار ملابس الطفل التي كانت عليه ولكنك لم تسمعيني ربما
• طيب سوف أذهب لإحضارها .. ولكنها متسخة وكنت عازمة على غسلها .
• ليس هناك داعٍ لغسلها أحضريها كما هي .
تدخل آمنة البيت وتحضر الملابس وتسلمها للرجل بعد أن وضعتها في كيس كرتوني وتركب السيارة وينطلقان .. عيون الجميع تراقب آمنة والرجل وهناك الهمسات واللمز والغمز من الجميع .. أحدهم قال : الموضوع كبير لابد أن يحيى وزوجته سرقا هذا الطفل من إحدى المستشفيات .. الأيام ستكشف الأمر .. رد عليه آخر : اتق الله تعالى، يحيى رجل تقي يخاف الله وزوجته كذلك كفاكم من الكلام والتأليف .. سامحكم الله تعالى .. يتفرق الناس بعد مشاهدة ذلك الفصل من القصة..
في السيارة تحاول آمنة أخذ شيء من الرجل تطمئن منه على زوجها أولا وعلى الطفل ثانيا ولكن دون فائدة، فهو كما قال لها من البداية لا يعرف شيئا ومهمته فقط تقتصر على إيصالها إلى المركز وبعدها سيعود .. ساد الصمت في السيارة ولكن عقل آمنة ما زال يأخذ ويعطي، ولم يصل لقرار وغرقت في التفكير حتى لم تحس بالمسافة فإذا بالرجل يقولها : تفضلي انزلي وصلنا المركز .. ترفع رأسها وتنظر حولها وتفتح الباب ويخرج خلفها حتى يوصلها بالباب المركز.. في خوف وربكة تدخل آمنة مركز الشرطة لأول مرة في حياتها، فهي لم تدخل جهات حكومية من قبل عندما فتحت الباب رآها يحيى، فقام من مكانه مسرعا وقال لها : آمنة ماذا تفعلين هنا ؟ ومن أتى بك من البيت ؟ تأخذ الطفل من وتقبله .. بعد أن تجلس وتستريح تشرح له القصة وكيف جاءت إلى هنا . يستغرب من الأمر أن هنا ولا أعرف بالذي يدور بالداخل بين الشيخ هاشم وضابط المركز.
لحظات ويأتي أحد أفراد الشرطة بدعوة يحيى للدخول .. يقف ويخاطبه وزوجتي معي .. الشرطي : نعم . ينهضان معا ويسير يحيى في المقدمة وتلحقه آمنة تحمل الطفل على صدرها بين ذراعيها .. يطرق يحيى الباب ويؤذن لهما في الدخول . الشيخ : هاذان هما يحيى وآمنة سيادة الضابط ينظر إليه ويخاطبه : أهلا يحيى، لقد سمعت قصة عثورك على الطفل من الشيخ هاشم ولكن أحب أن أسمعها منك.
يفرك يحيى يديه ويحرك ما على رأسه من غطاء ويقول : ليس هناك جديد سيادة الضابط القصة نفسها .. الضابط : أعرف، ولكن أرغب في سماعها منك فقد سكون الشيخ غفل عن أمر ما . يبدأ يحيى في سرد القصة والضابط والشيخ هاشم وآمنة يستمعون له لا يقاطعه أحد حتى انتهى من الحديث . أحسنت قالها الضابط ثم سأله : ألم تلاحظ شيئا في المكان أو على الطفل ؟ إطلاقا.. رد عليه يحيى .. كان الطفل تحت شجرة الزام ملفوفا بثوب أبيض وليس بجواره شيء آخر . ينظر إلى آمنة ويسألها : عندما قمتِ بتغيير ملابس الطفل ألم تجدي شيئا في داخلها ؟ تتلعثم آمنة وتحاول أن تكون قوية حتى لا ينكشف سرها وتقول : لا .. وترفع الكيس الذي معها وتقول له : وهذه هي الملابس التي كانت عليه .. يأخذ الضابط الملابس ويضعها على الطاولة . يقف الضابط ويتحرك في اتجاه كل من يحيى وآمنة وينظر للشيخ هاشم .. في الواقع هناك بلاغ حول اختفاء طفل وصل لنا من القيادة فقد عمم على جميع مراكز الشرطة في البلاد .. ولكن نحن لا نعرف هل هذا الطفل هو المقصود أو لا..؟ لذا نحن سوف نتواصل معهم ونبلغهم بوجود طفل معنا .. تنهض آمنة : هذا ولدي .. يقف يحيى ويضع يده على كتفها ويقول لها : الأمر لله آمنة .. نحن صبرنا سنوات بدون أولاد ورضينا بحالنا والله قادر على أن يهبنا طفلا نفرح ونأنس به وهذا له أم فقدته وترجو عودته.. تنظر إليه وعيونها كلها دموع : لقد دخل قلبي وتعلقت به .
يعود الضابط إلى كرسيه ويخاطب الشيخ هاشم : نحن سنترك الطفل مع يحيى وآمنة حتى نكمل الإجراءات ونتواصل مع القيادة بشرط المحافظة عليه والحضور مباشرة عند الطلب .. وسوف يوقع يحيى تعهدا على ذلك.. طبعا المفروض نأخذه ولكن لإحساسي بأمانتهما سوف أتحمل جزءا من المسؤولية .. يشكر يحيى الضابط على ثقته وتفرح آمنة بعودة الطفل إليها ولو لفترة بسيطة ويطلب منهما الخروج .. يخرجان ويظل الشيخ هاشم مع الضابط وبعد أن أغلقا الباب يهمس الضابط للشيخ : لدى آمنة أمر تخفيه ..
الشيخ : ربما فقد شاهدت ترددها في الرد على سؤالك ..
الضابط : هو ذلك .. الآن أنت أذهب معهما ولا تظهر لهما مما قلته لك
الشيخ : لا يكون عندك أدنى شك ..
يخرج الشيخ بعد أن ودع الضابط وسلم على بقية الأفراد في الاستقبال ويصطحب يحيى وآمنة إلى السيارة ليعودوا إلى القرية .. في السيارة لم يكن هناك حديث غير الصمت، ويصلون وكل واحد منهما يتجه إلى بيته فال الشيخ لهما : لا تخرجا من القرية إلا بعد إعلامي، فقد نطلب في أي لحظة من مركز الشرطة.