ليلة القدر والليالي الوتر
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
تحدثنا في مقال سابق عن أهمية الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان حريصا على تحري ليلة القدر في تلك الليالي؛ لما لها من أهمية عظيمة، وفضل كبير، فهي خير من ألف شهر، كما ورد ذلك في قوله تعالى:”لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”.[القدر:3]. وهذا يعدل ثلاثة وثمانين عاما تقريبا.
وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- في فضلها قول النبي –صلى الله عليه وسلم-:”مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ”. [متفق عليه].
لماذا أخفيت ليلة القدر؟
من يتدبر الأمر يجد أن هناك هدفا أسمى في إخفاء ليلة القدر في الليالي العشر، وهو الجد والاجتهاد في الطاعات عامة، ولو علم المسلمون موعدها لاجتهدوا فقط في هذه الليلة، ولقلّ العمل والثواب، لكن نيل المكارم يحتاج همة عالية، وعزيمة قوية، وصبرا على العبادات والطاعات، وقد روى عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- أنه:”خَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ وعَسَى أنْ يَكونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا في التَّاسِعَةِ، والسَّابِعَةِ، والخَامِسَةِ”. [البخاري:2023].
ولا شك أن في هذا الحديث عدة رسائل نبوية للأمة المحمدية، ومنها:
أولا: حِرص النبي –صلى الله عليه وسلم- على أمته في أن ينالوا خير ليلة القدر وثوابها، وتجلّى ذلك في قوله –صلى الله عليه وسلم-:”خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ”.
ثانيا: ارتكاب الذنوب والمعاصي كان سببا في رفع ليلة القدر وخفائها، ويؤدي إلى الحرمان من فضلها وبركتها، وهذا ما حدث بين رجلين تخاصما وتشاجرا، وتجلّى ذلك في قوله –صلى الله عليه وسلم-:”فَتَلَاحَى فُلَانٌ وفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ”.
ثالثا: خفاء ميقات ليلة القدر فيه خير للمسلمين، وهو ما تجلى في قوله –صلى الله عليه وسلم-:” وعَسَى أنْ يَكونَ خَيْرًا لَكُمْ”، فلو كان موعدها محددا لاقتصر عليه فقط، ولكن الاستزادة في العبادة سبيل لنيل الثواب الكثير والأجر الوفير.
رابعا:أهمية الليالي الوترية في تحري ليلة القدر، وتجلّى ذلك في قوله –صلى الله عليه وسلم-:”فَالْتَمِسُوهَا في التَّاسِعَةِ، والسَّابِعَةِ، والخَامِسَةِ”، وقيل في بيان المقصود بالعدد الوتري: إنها تكون ليلة الحادي والعشرين، أو الثالث والعشرين، أو الخامس والعشرين، أو السابع والعشرين، أو التاسع والعشرين، وهي الليالي الوترية، وقيل: تختلف من عام لآخر، وقيل غير ذلك.
وعن تحريها واغتنامها في الليالي الوتر وردت فيه أحاديث كثيرة، منها ما روته السيدة عائشة –رضي الله عنها-:”أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قَالَ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ”. [البخاري:2017].
وروى عبد الله بن عباس –رضي الله عنه-:”أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، في سَابِعَةٍ تَبْقَى، في خَامِسَةٍ تَبْقَى”. [البخاري:2021].
وهناك من يرى أنها تكون في السبع الأواخر لما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-:”أنَّ رِجَالًا مِن أصْحَابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المَنَامِ في السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرَى رُؤْيَاكُمْ قدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فمَن كانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الأوَاخِرِ”. [متفق عليه].
وهناك من حددها بليلة السابع والعشرين لما رواه التابعي زِرُّ بنُ حُبَيشٍ أنَّه سَأل أُبيَّ بنَ كَعبٍ -رَضِي اللهُ عنه- عن قَولِ عبدِ الله بنِ مَسعُودٍ -رَضِي اللهُ عنه-:”سَأَلْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، فَقُلتُ: إنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يقولُ: مَن يَقُمِ الحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ القَدْرِ؟ فَقالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، أَرَادَ أَنْ لا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَا إنَّه قدْ عَلِمَ أنَّهَا في رَمَضَانَ، وَأنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، وَأنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ -لا يَسْتَثْنِي- أنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلتُ: بأَيِّ شَيءٍ تَقُولُ ذلكَ يا أَبَا المُنْذِرِ؟ قالَ: بالعَلَامَةِ -أَوْ بالآيَةِ- الَّتي أَخْبَرَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ؛ أنَّهَا تَطْلُعُ يَومَئذٍ لا شُعَاعَ لَهَا”. [مسلم:762].
وقيل غير ذلك، ولسنا بحاجة لسرده والحديث عنه؛ لعدم وجود أدلة شرعية صحيحة.
والخلاصة في ذلك أننا نجتهد في العشر الأواخر؛ لننال خير ليلة القدر وثوابها، والتماسها في الوتر منها أحرى وأرجى، والله تعالى أعلى وأعلم.
اللهم بلغنا ليلة القدر، ووفقنا لقيامها إيمانا واحتسابا، واكتب لنا فيها عتقا من النار برحمتك يا أرحم الراحمين.