تأليف: سهام سالم
لم ينم البارحة، ولا ينام أبدا، تبدأ الحشرتان اللتان تعيشان بداخل رأسه بقضم دماغه عند منتصف الليل وحتى ما بعد الفجر، يسمع أصوات مضغهما لدماغه، حتى أنه يسمع أصواتهما وهما تتجولان في دماغه الآن، أعرفه جيدا، يبدأ كل شيء عندما يبدأ بهرش رأسه المشعّث ويمشي بلا هوادة حول البيت، لحسن حظه أن بيتنا هو أفضل مثال على البيت العماني التقليدي، مستطيل وضيق، تستطيع أن تنهي حوله عشر دورات تامة دون تعب، له غرفتان صغيرتان وصالة طولية ومجلس للرجال، الحمام الوحيد في البيت يقطن في أقصى الشمال معزول قرب مزرعة النخيل، إنه يجعل أمر خروجك إليه في منتصف الليل مستحيلا، أما المطبخ فهو يتكوّم قرب المخزن المحشور تحت الدرج المؤدي للسطح القريب جدا حتى أن كلمة (سطح) تبدو كثيرة عليه.
لقد أتم يعقوب دورته السابعة حول البيت وهو يهرش رأسه ويصرخ للقطط التي تهاب نظرة عينيه وخطو قدميه. صدقني، لم أر إنسانا تفهمه القطط لهذا الحد، حتى أنها تلوذ بالفرار بمجرد أن تسمع صوت قدميه من بعيد.
لن يتوقف عن المشي وهرش رأسه حتى تحين الساعة العاشرة، موعد نشرة الأخبار التي لا يفوّتها مهما حدث. تهمه أخبار البلد والعالم رغم أنه لا يفهم شيئا مما يُقال. وعندما يسألني عن المعنى أجيبه بأنه لا معنى بالتحديد خلف نشرات الأخبار، وأكرر عليه بأنه قد يجد الكثير من المعاني في المسلسل البدوي الذي يتابعه إلا أنه لن يجد شيئا حقيقيا في نشرة الأخبار. وهو يصدقني وكأنني وحيه المنزّل.
لقد أسرّ لي ذات يوم أنه قلق من أن يموت قريبا بسبب الحشرتان اللتان تعيشان في رأسه، دخلت أحدهن وهي حشرة صغيرة سوداء تشبه العنكبوت، عندما كان يسقي النخيل بصحبة والدنا في أحد الصباحات. وهو لا يتذكر بالتحديد متى دخلت الأخرى، ولكنه يعرف شكلها فهي تشبه تمساح صغير يعبث بدماغه دائما. ثم إنه حاول إخراج الحشرة السوداء بعود خشب صغير ولكنه انكسر وعلق في أذنه، اضطررنا لنقله للمركز الصحي ليتم اخراج العود الخشبي من أذنه، لقد ثقب طبلة أذنه مما اضطره لأن يقضي بضعة أسابيع نصف أصمّ.
أنا أصدقه؛ وأكذّب كل العالم إلا يعقوب؛ لأنني أعرف ما تفعله الأفكار بالدماغ، ما يحتاجه يعقوب ليس إلا زيارة سريعة لطبيب الأذن والحنجرة، سيعالج التهاب أذنيه وترحل أصوات الحشرات وهي تمضع دماغه في الليل. هو يطالبني كل يوم بعملية جراحية، يقول بأنه يجب أن يقسموا رأسه لنصفين، ويخرجوا كل الحشرات التي فيه. لأنه لم يعد يحتمل صوت الحشرات التي لا تشبع أبدا.
تنويه: القصة مستوحاة من الواقع، أي تشابه في الشخصيات يثبت أن “الحياة تحاكي الفن أكثر مما يحاكي الفن الحياة”1، وأن الإنسان يستطيع أن يعيش بدماغ مقضوم، وأن الأفكار كالنار، تأكل كل شيء.
1 لقائلها: أوسكار وايلد، مؤلف مسرحي وروائي وشاعر أنجليزي إيرلندي.