(شجرة الزام) الجزء الثاني
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
أحست آمنة بأن هذا المولود سيكون فرحتها التي لم ترزق بها خلال فترة زواجها، نظرت إليه في فرح وسرور يداخله شيء من الخوف. “من الغد ماذا سيكون رد شيخ القرية؟ وإذا أخذه إلى مركز الشرطة كيف سيتعاملون معه؟” تحدث نفسها.. “إذا قرروا أن يأخذوه مني أو ربما يكون هناك بلاغ من أحد الأسر لفقد مولودها؟” لا تجد أية إجابات لتلك الأسئلة المتناثرة في رأسها.. الآن كل ما تتأمله أن ينام هذا الطفل في حضنها ولا تفارقه.. تضعه على سريرها وتتجه نحو الخزانة المركونة في غرفتها.. فيها درج لم يفتح منذ زمن، كانت تحتفظ به ببعض الملابس لإخوتها عندما كانوا في مثل عمر هذا الطفل. تخرج كل القطع الموجودة وتنثرها على الأرض لأجل أن تختار أجمل قطعة لولدها الجديد. رفعت إحداها ونظرت إليه.. “هذا سيكون جميلا عليه.. لونه الأزرق الفاتح مع وجود ذلك الشريط الأصفر على الأكمام وتلك الرسمة على الصدر أنها وردة تلفها أوراق خضراء.. سيكون هو الوردة التي ستجمل حياتي.. وأنا هي تلك الأوراق الخضراء التي ستحتضنه وتحافظ عليه”.. ثم تسرع إليه بعد أن أعادت بقية الملابس إلى الخزانة وتبدأ في عملية تغيير الملابس.
هناك في الصالة جلس (يحيى) يفكر في الخطوة القادمة.. كيف سيقابل الشيخ ويشرح له هذا الأمر وكيف سيكون موقفه منه؟ لا يدري نهاية القصة كيف ستكون، وهذا التعلق الكبير من زوجته بهذا الطفل الزائر .. لو قدر الله ورحل عنها ماذا سيحل بها؟.. أفكار وأسئلة كلها تتداخل في رأسه الذي بدأ الشيب يكسوه فيما بقى من الشعر، حيث طغى الصلع على الجزء الأكبر من رأسه الدائري ذا البياض الذي يخالطه شيء من الحمرة، فقد عرف عن (يحيى) النظارة والجمال مع حسن الخلق..
لحظات وتأتي زوجته (آمنة) وهي تحمل الصغير وقد غيرت له ملابسه وعطرته وبدا على الوليد الفرحة.. فالابتسامة تنور وجهه وتلألأ عيناه وكأنه ينظر إلى مستقبله بتفاؤل ويقول في داخله وجدت الأسرة التي سوف تعتني بي.. تسلمه له وتذهب هي لإعداد الفطور..
• منادية زوجها وهي ذاهبة.. “انتبه عليه.. وإذا بكى أو احتجت شيء أنا في المطبخ”.
• “طيب.. لا تخافي سيكون في الحفظ والصون” .. يبتسم إليها مشيرا لها بالذهاب.. يضعه في حجره ويداعبه بأصابعه على وجه.. شعور افتقده أن يكون طفل بين يديه يلعب معه يضاحكه.. كانت الدنيا لا تتسع لفرحة (يحيى) وكان يرجو أن يظل هذا الطفل معهم، لكنه لا يعمل ماذا سيكون الوضع في الوقت القادم.
تناول (يحيى) الإفطار وبدأ يستعد للخروج.. رافقته زوجته حتى عتبة الباب وهي تحمل الطفل.. كانت مترددة في تسليمه إليه ولكنها مجبرة.. قبلته على جبينه قبلة طويلة وكأنها تودعه وداخلها هناك أمل بعودته اليوم إليها وسوف ينام في حضنها وإلى جوارها.. خرج (يحيى) وحمل الطفل معه ووقفت آمنة على الباب تراقبه وهو يختفي بين منازل القرية حتى أصبحت لا تراه فدخلت وأغلقت الباب خلفها وسريعا اتجهت إلى غرفتها.. أغلقت الباب بالمفتاح مع أنه ليس هناك من أحد متوقع أن يدخل عليها ولكن هناك أمر تريد أن تكتشفه دون أن يعرفه أحد.. تأخذ ملابس الطفل التي كانت عليه وتضعها أمامها.. وهناك ذلك الظرف الذي كان مدسوسا في ملابسه الداخلية.. كان الفضول يدفعها من البداية أن تفك طلاسمه وتعرف ما به ولكنها آثرت تأجيل ذلك حتى خروج زوجها.. ظرف أبيض من الحجم الصغير ليس هناك أي شيء مكتوب عليه ولكنه يضم شيئا بداخله.. قبل أن تفتحه رفعته في اتجاه المصباح حتى تحاول اكتشاف ما يوجد بداخله.. قالت في نفسها: “كـأنها ورقة.. ما عساها تحمل تلك الورقة..” تفكر كثيرا وتتعب نفسها في التفكير وهي ممسكة بذلك الظرف ولو فتحته لتلاشت جميعها وارتاحت نفسها. ويدها ترتجف خوفا من المفاجأة.. تفتح الظرف وتقرأ ما في داخله دون أن تحرك شفتيها حتى لا أحد يسمع همسها مع أنه لا أحد معها بالغرفة.. تفتح عينيها وكأنها رأت أمرا مهولا.. لا تقول شيء.. بسرعة تغلق الظرف بعد أن أدخلت الورقة بداخلها وبدون لا تدري تهم أن تقطعه وترمي به ولكنها تتراجع عن تلك الخطوة وتقول لنفسها: “يجب أن احتفظ بهذا الظرف بعيدا عن أعين زوجي ويظل ما بها سرا في صدري” .. تقف على قدمين غير ثابتتين وتتحرك نحو الخزانة حتى تحفظ سرها فيها.. ثم تلف الظرف بقطعة قماش وتدسها في ثوب من أثوابها المعلقة والتي لم تعد تلبسها.
بعد أن اطمأنت وارتاحت نفسها وشكرت الله تعالى بأن الظرف لم يقع في يد زوجها قبل أن يخرج به لشيخ القرية قالت: “أن تلك النذر التي قدمتها لشجرة الزام قد جاءت بالفائدة ولا بد من تقديم شيئا للشجرة”.. تنهض وتدخل إلى المطبخ وتحمل في يدها وهي خارجة كيس به شيء من الأرز وحدثت نفسها: “قبل أن يأتي (يحيى) سوف أذهب فقد عاتبني في المرات الماضية على أفعالي مع الشجرة وتلك النذور التي قدمتها لها.. يجب أن أخرج..” تضع تلك العباءة على رأسها وتخفي الكيس تحت إبطها. تخرج من البيت وتغلق الباب.. وهي في الطريق تصادف جارتها (سعاد) تسلم عليها في عجلة دون أن تنظر إليها ولكن (سعاد) لا تتركها: “إلى أين؟ أكيد متجهة إلى الزامة.. وكالعادة سوف تنثرين حبات الأرز تحتها.. أملا أن ترزقي بطفل (نضحك) وسنين وأنت على هذه الحال ولم يحدث أي شيء”.
تقف (آمنة) وتنظر إليها بعين فيها شيء من الغضب وعدم الرضا بما قالت سعاد وترد عليها بصوت عال: “ما دام الله موجود فالأمل كذلك موجود.. وذهابي إلى شجرة الزام فيه تخفيف وليس ملجأ كما تظنين”.
•سعاد: “جميل أنك تدركين بأن تلك الشجرة لا تضر ولا تنفع.. أنها شجرة ليس إلا”
• آمنه: “ما عليه على الأقل لما أنثر تلك الحبات من الأرز تحت جذعها تأكل منه الطيور التي تنام تحتها ويأتي الخير من ذلك”.
• سعاد: “عسى خير ( آمنة ).. لكن أراك اليوم مختلفة عن بقية الأيام التي كنت تذهبين فيها إلى الشجرة.. هناك ثقة وتفاؤل وإشراق في وجهك”
• آمنة: “الحمد لله أحس بأن الله سوف يجبر بخاطري قريبا”.
تواصل (آمنة) سيرها في اتجاه الزامة وعندما تصل تخرج كيس الأرز وتبدأ في نثر حباته على الأرض حول جذعها وهي تتمتم بكلمات في داخلها وترفع رأسها تبحث عن الطيور حتى تبدأ في نقر تلك الحبوب من الأرض.. جلست على الأرض واستندت على جذع الشجرة بظهرها وأغمضت عينيها.. وبدأت تتخيل حياتها بعد حصولها على الطفل.. اختارت له اسما وبدأت في تجهيز الغرفة له بكل ما يحتاجه ومن السوق سوف تأخذ أفضل الملابس.. “سيكون أفضل الأولاد.. سأهتم بتعليمه وأوصله لأرقى الجامعات وعندما يتخرج سأختار له زوجة”.. وهي في خيالاتها تأتي الطيور كأنها قدمت لها الدعوة وتبدأ في التقاط حبات الأرز.. كانت بأعداد كبيرة لم تتعود عليها شجرة الزام فهناك غرباء حضروا المأدبة هذه المرة.. مع الجلبة التي أحدثتها الطيور ولكن (آمنة) لم تحس بشيء فقد كانت في عالم آخر.. حتى أن الطيور كانت تقف في كل جزء من جسمها وما زال الكيس في يدها وبه حبيبات من الأرز تتنافس صغار الطيور للوصول إليها.. يسقط طائر داخل الكيس ويحاول جاهدًا الخروج منه ولكنه لا يستطيع تتقدم بقية الطيور لتقديم المساعدة له.. ليس لديهم طريقة إلا إيقاظ ( آمنة) يأتي أحدهم وبكل لطف ينقرها على خدها وكأنه يطبق عليها قبلة استعطاف.. تفتح عينيها وترى المنظر وتقول في داخلها: “من أين جاءت هذه الطيور”.. ثم تنظر إلى الكيس بيدها وتشاهد العصفور المسكين بداخله فتسرع في فتحه ليخرج.. خرج فرحا وطار ليقف على رأسها وكأنه يقدم لها الشكر الجزيل على إنقاذه.. تحرك ذلك العصفور راحلًا فطارت كل الطيور خلفه.. فقامت (آمنة) مودعة المكان راجعة إلى بيتها.. وقبل أن ترحل نظرت إلى الأرض ولم تر أية حبة أرز فلقد أكلتها الطيور..
في بيت الشيخ هاشم بدأ (يحيى) في سرد القصة منذ البداية كيف وجد الطفل تحت شجرة الزام وفرحة زوجته به وسعادته هو بهذا الطفل.. نظر الشيخ لمن حوله ثم قال: “نحن لا نعرف شيئا عن هذا الطفل.. فلا بد من تسليمه إلى الجهات المسؤولة أولا”.
• يحيى: “أنا أعرف هذا ولذلك جئت إليك. فقط لدي طلب أن لم يظهر له أهله فأرجو أن تطلب منهم أن يبقى معنا”.
• الشيخ: “بأذن الله تعالى.. وسوف يبقى معكم حتى يجدون له أهل وإن تعذر ذلك فهناك إجراءات أخرى سنقوم بها فلا تخف”.
شاهد الجميع الفرحة على وجه (يحيى) من كلام الشيخ هاشم ونظروا إليه وهم يلقون عليه كلمات تهدئ من نفسه وتدخل الطمأنينة عليه، فالكل يعرف أنه ليس له أولاد وقد يكون هذا الطفل بداية لسعادة أخرى في حياته. يخرج الشيخ هاشم والطفل بين أحضان (يحيى) متجهين إلى مركز الشرطة بالولاية.. من كان في المجلس في داخلهم أمل بأن يعود (يحيى) مع الطفل.
للقصة بقية سوف تتعرفون عليها في الجزء القادم بحول الله تعالى.