2024
Adsense
مقالات صحفية

مَن فينا في البطولة كجساس؟

الجزء الثالث

أحمد بن سليم الحراصي

(…..لقد نهرني وقال: افعلها وخلصني).

لقد طلب منه ابن عباد يوم أن قتل كليب المغادرة إلى مكان بعيد من ديارهم فرد عليه جساس:
-ولماذا أذهب؟
-لعل بذهابك تمنعها من الاندلاع (يقصد الحرب).
– لا يا ابن عباد، لن أذهب، أنا من بدأتها وأنا سأكملها خاصة بعد أدفع البريء نضلة جزءا من ثمنها.
لقد قالها وهو صامدٌ في مكانه حتى بعد أن كُشف مكانه أبى أن يغيره، فعلى كل حال، ذلك يؤكد شجاعة هذا الفتى وكأنه يتحدى جميع فرسان تغلب للقدوم وطلب المبارزة إلى حيث مكانه حتى ولو كان الزير نفسه، فهو لم يكن خائفًا، وحتى الثلاثة الذين ظل أبوه يذكرهم بأنه لا يستطيع مواجهتهم، ضرب بها عرض الحائط، بل شمر عن ساعديه وانتشل نفسه غير مبال بكلام أبيه الذي صنفه بأنه ضعيف مقارنة بهؤلاء ولكن هذا لا ينطبق على من يطلب المجد والعليا كجساس، وهو نفسه القائل: أتظن أن الناس كلهم مثل جساس؟ حينما يحسون بالإهانة ينتشقون سيوفهم ويسعون إلى غسلها.

جساس أيضًا يعلمنا كيف للواحد منا أن يكون رجلًا شهما وذا نخوة وقائدًا ومربيًا لأسرة، حتى حينما علم الجرو بأن جساسا قاتل أبيه، قال له جساس:
-أنا مثل أبيك في الحالتين، لقد ربيتك وأنت بلا أب.
-لِمَ أنا بلا أب يا جساس؟
-أجابه باختصار لأنني قتلته!
-وتعترف بذلك؟
-وأقولها معتزًا، أبوك بغى وتجبر وأذل عربًا لا تقبل الذل.
-ولِمَ أخفيت عني ذلك؟
-لكي لا أضطر إلى قتلك.
-أتقولها وأنت مختبئ بين جندك؟
-ما كنت لأختبئ بين الجند حتى من أبيك.
فهو نفسه دائما بعزته وكبريائه حتى بعد هذا العمر الطويل والمرير في الدفاع عن الحياة لكن في الدفاع عن الكرامة من جانب يكون صائبًا عند أمثال جساس.

جساس لخص حال العرب في مقولته هذه: نحن قوم نتجبر ونحب أن نتجبر؛ ولذلك لا نحتمل أن يتجبر علينا أحد. فالعرب حالها كحال ما ذكره جساس، كنت ضعيفًا وكسيف الحال وعندما صرت قويًا والمال والحشم والخدم في يدك أصبحت جبارًا متسلطًا على من هم دونك، صحيح أن جساسا رجل متسرع في قراراته لكنه مع هذا كل قراراته كانت تصب في مصلحته الخاصة فهو من يريد ذلك وهو من يستطيع أن يتحمل مسؤولية فعلته وعواقب قرارته المتسرعة بنفسه دون أن يتدخل في هذا أحد آخر؛ لكنه تغافل عن الحقيقة المرة التي ينتهجها من لا يرحم- أعني بذلك صاحب الانتقام وهو الزير-الذي كان مقصده إبادة قبيلة بأكملها بسبب فعلة جساس، فمثل جساس لم يكن نادمًا يومًا لفعلته وكان دائما مستعدًا لخوض المعركة بنفسه دون أن يكون لأحد شأن فيما فعله، وعندما رأى أن قومه لا يستطيعون احتمال جبروت المهلهل، طلب المبارزة لظنه بأن نهاية الحرب ستكون بموته، وعلى الرغم من ذلك فقد قدم نفسه للمبارزة لعل أحدهم يبارزه وينتهي من هذه المسألة دون أن يتضرر منها أحد، ولعله بذلك افتدى بنفسه وخسر المبارزة عمدًا لينهي الحرب، ولكن هيهات أن تكون هذه النهاية.

وحينما بارزه الجرو وهمَّ على قتله، صرخت ابنته فتوقف، ولكن جساسا انتهز الفرصة لكي لا يتراجع الجرو على الإجهاز عليه، فقال له الجرو حينها: -ظنتْ ابنتك أنها تستطيع أن تنقذك، ولكن لا شيء ينقذك من هذه الدنيا.
-فرد عليه جساس بعزة نفس وأنفة: ما كنت لأحيا وقد أنقذتني ابنتي، أفعلها يا هجرس، افعلها وخلصني.
فيا لشجاعة هذا الرجل حين يواجه موته ثم يرد بالجملة الواحدة: افعلها وخلصني، حتى المهلهل نفسه اعترف بشجاعة جساس من هذا الموقف، فقد قال المهلهل للجرو عن هذا الموقف: حتى في تلك اللحظة كان شجاعًا، آه، ما أجمل هذا الكلام! يبدو أنني لم أفهم جساسًا جيدًا ، حتى أنه قال لابنته هند: أنا خفت من ابن عباد، راوغته وخدعته؛ لكي أنجو من الموت، كان عليَّ أن أقول له ما قاله جساس للجرو؛ افعلها وخلصني ولكنني كنت خائفًا.

كثيرًا ما يعترف الشجعان بشجاعة خصمهم، ولكن أن يبكي أحدهم على موت خصمه فهذا أمرٌ نادر الحدوث، وهذا ما ظهر من سؤال هند لأبيها المهلهل عن سبب بكائه، أجابها:
أتطلع إلى الأفق يا هند، فأراه فارغًا، الدنيا فانية، جساس لم يعد موجودًا، من يصدق هذا؟ تصوري دنيا من دون جساس؟
-لا أفهمك يا أبي!، أليس مقتل جساس هو ما كنت تسعى إليه طوال ذلك الزمن؟
-لا أعرف يا هند لا أعرف، ولكنني أحس بمقتل جساس أنني خسرت شيئًا.
إن الاعتراف بالحق فضيلة فالدنيا فعلا تحدث فراغًا كبيرا عندما تفقد أناسًا مثل جساس.

فمن فينا في البطولة كجساس؟ وأقولها مثل ما قالها ابن مرة: لا تظن أن الناس كلهم مثل جساس.
إن مثل جساس رجالٌ ونساء أهل النخوة والكرامة والشهامة والتمسك بالكلمة والوعود، أهل للغيرة والتزمت والشجاعة والسمت، أصحاب همم عالية وآفاق واسعة وصدور رحبة متسعة، أهل كرم وجود وإنصاف. جساس الثائر العربي الأصيل ضد ملك جائر ظالم لرعيته، فمن لا يقبل الذل والمهانة سيعيش عزيزًا طوال عمره حتى بعد موته تتسابق الألسن في مدحه وذكر مناقبه في المجالس، فالرجل ينتشل نفسه من الخراب بعزة نفسه وكرامة أهله؛ فكرامتك مصانة حين تكون كرامة أهلك فوق كل اعتبار، فكن مثل جساس ولا تكن ضعيفًا حتى لو رأيت مَن يفوقك قوة؛ فضعفك هو خوفك ليس إلا، فمن فينا مثل جساس؟

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights