السلوكُ المندسُّ
سعد بن فايز المحيجري
أغلبنا إن لم نكن جميعا نتحدث في جلساتنا بالكلام عن الفساد ونحشوها به، وكيف أنّه تحول من شبح لا يُرى جاثمٍ على صدور الأوطان إلى وحش فتّاك يفترس الأمم ويمحوها من خارطة البلدان، وكيف تغلغل إلى ثلة ليست بقليلة من المواطنين وغير المواطنين مَمَّن يجترعون المناصب العُليا، سواء أكانوا في القطاع الخاص أم العام، ولا تكاد تخلو جلسة من الجلسات، سواء أعائلية كانت أم شبابية إلا وللفساد والفاسدين نصيب منهما، ولا أشك أن جميع مَنْ في الجلسة يتناوشون أصحابَ الشأنِ من أولئك الفاسدين بأبشع الأوصاف وعبارات الشتم.
ولكن حين نمعن النظر في تصرفاتنا اليومية في المعاملات أو مكان العمل وحتى على مستوى العائلة للأسف نجد أننا نلتاث بالفساد، وأننا قد سلكنا طريقه في يوم من الأيام بإدراك منّا أو دون ذلك.
وحين أتحدّث عن الفساد فلا أحصره في الفساد المالي أو سرقة المال العام، بل أتحدث بالمعنى الجامع الشامل لهذه الكلمة، فسرقة الوقت وتضييعه فساد، والمحسوبية هذا من شيعتي وذاك من عدوي فساد، والمطالبة فيما ليس لي بحق وأنا أعلم علم اليقين ذلك فساد، والسكوت عن خلل يُعطِّل سير العمل لأستفيد منه فساد، والتواصل مع الآخر والعكس بحجة العمل وقد تدنّست النيّات بالغايات المبيّتة فساد، وإهمال تربية أبنائي فساد، وحين أفسّر آية أو أشرح حديثًا وَفْقَ الهوى تطويعًا لمصالحَ شخصيةٍ أو لإتلاف عقيدة أحدهم فهو فساد، وحسبي أنه أخطر أنواعه الذي قد يغفل عنه الناس.
ربما ارتباط مفهوم الفساد بالمال جعلنا لا نستشعر تصرفاتنا الملبّدة به، ولا نعدّها منه، وقد يكون غياب التثقيف والنصح والإرشاد عبر القنوات الإعلامية والمقاعد الدراسية من أسباب جهلنا به وسلوكياته، للأسف باتت هذه السلوكيات تندسُ بين تصرفاتنا وحياتنا، وأصبحنا نمارسها بطريقة وأخرى، واستحدثنا لها أساليب ومسالك متعددة ربما لا تخطر على بال أحد – من أجل منفعتنا الشخصية فقط – فهذه الثقافة اندسَّت بيننا شئنا أم أبينا، ونسعى في كثير من الأحيان أن ندثّرها بلحاف المسمّيات، مثل: توصية ومساعدة وحق، المهم أنّنا أخلدنا إلى الفساد، ونجتهد في إقناع أنفسنا بأنه ليس منه في شيء.
يُخبرني زميل أنه سأل يومًا أحد المديرين: لماذا تستحل المال العام؟! فأجابه: إن هذا حقي؛ لأن لي حقًّا في الترقية، وحتى الآن لم أحصل عليها!!
ومن الأمورِ التي يجبُ على المرءِ إدراكها أن الفساد فساد، صغُر أم كبُر، وينبغي لنا أن نُريَ أنفسنا الحقَّ حقّا والباطلَ باطلا، دون تدليس الحق بالباطل والباطل بالحق، ولا ينبغي لنا أن نصنّفَ الصلاحَ والفسادَ حسب مقاييسنا الشخصية، ومصالحنا الدنيوية، فالدينُ واحدٌ، ولا يتجزأ باعتبار المنصبِ والمكانةِ والوظيفة. فقد تكون أحد صنَّاعِ الفساد الذين تتحدث عنهم وتنعتهم بأشد النعوت، وربما فسادك الذي لا تراه قد يكون تأثيره أكبر من فسادهم.
ختامًا: قد لا يُعجب ما ورد في المقال أعلاه بعضنا، لا لشىء سوى أنه لا يراه فسادًا، أو بالأحرى لا يريد أن يراه فسادًا، فلا تكن ممّن قال فيهم الشاعر النجفي:
بعض الأنام يرى الحقيقة مرة
فيفر منها مطبقا عنها الفما
فهذا السلوك السيئ مندسٌ فينا، ويتحرّر بطرائق وأساليب كلما دعت الحاجة إليها.
قال تعالى: “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ” يوسف 53.