مَن فينا في البطولة كجساس؟ ( الجزء الثاني)
أحمد بن سليم الحراصي
أعتقد أنكم تساءلتم أن مثل جساس لا يمكن أن يكون رجلًا، فكيف لرجلٍ يقتل ابن عمه وصهره بسبب ناقة حقيرة؟ يجب أن نعرف أولًا أن جساسًا وكليبا لم يكونا أبناء عمٍ مثلما تظنون في أبناء عمومتكم فابن عمي يعني ابن أخ أبي، ولكن لم تكن هكذا علاقة جساس بكليب، إنما القبيلتان فقط اللتان تلتقيان في الجد الأخير وهو وائل، فبكر بن وائل هو أخ تغلب بن وائل، وعلى هذين الأخوين تفرعت القبيلتان، إذًا هم أبناء عم في القبيلة وليس كما تظنون.
لكن تغلب ترى في نفسها العزة أكثر من بكر، فهم من يتباهون بالفروسية والبطولة، وهم من يرون أنهم أصحاب الإنجازات والأحق في القيادة حتى في الحروب لم تعترف ببكر على أنها واحدة منهم، وأن لفرسانها وأبطالها الفضل في انتصاراتهم؛ فساعدت كليب في قتال لبيد؛ نصرة لأخته الزهراء، وتعاونت معهم في إنقاذ ابنتهم الجليلة من براثن التبع اليماني، وسعت جاهدة في عدم إعطائه الجليلة؛ لأنها وعدت كليبًا بتزويجه الجليلة قبل سنوات طويلة، وأبت أن تنقض وعدها له، وعلى الرغم من ذلك فإن قبيلة بكر أكبر من قبيلة تغلب، فلماذا هذه الأنفة والغرور؟
جساس رأى من تغلب الذل والإهانة، فلم يستطع تحملها، ولم يطع كليبًا، ولم ينفذ أوامره حتى عندما أمره بتدريب الجند؛ فقد رفض وقال لرسوله: اذهب لسيدك وقل له: إن جساسًا لا يتلقى الأوامر من أحد؛ لأنه يفهم أن كليبًا قد ظلمهم وأهان كرامتهم، وهذا ما أكده ابن عباد حينما غضب من فعلة كليب في قتل ناقة البسوس: لا طاعة لمن لا تعنيه كرامة أهله حتى ولو كان ملكًا. جساس لم يكن خائفًا من كليبٍ؛ لأن كرامته فوق كل اعتبار وهو الجواب الذي سمعه منه امرؤ القيس حينما سأله ماذا تحب؟ أجابه: أحب كرامتي؛ لأنه عاش في العزة والكرامة، وتأبى نفسه أن تذل، فلم يهب أحدًا؛ لحفظ كرامته وماء وجهه، وهو نفسه الجواب الذي قاله كليب لأخته فاطمة حينما خوفته من بطش لبيد فرد عليها: لا مجال للخوف حين يتعلق الأمر بالكرامة، فلماذا يخاف جساس إذًا وكرامته ممسوسة؟ فالأمر مثلما ينطبق على وائل ينطبق على جساس أيضًا، فالاثنان كرماء وأبناء كرام، وهو الذي قاله ابن عباد لابنه جبير (قد تكون الدية عند الكرام الاعتذار، وهذه مشكلة بين كرام، فالقتيل كريم والقاتل كريم)، وهذا ما أكدته الجليلة أيضا حينما سألها كليب عمن أعز منه ومن أمنع منه ذمة، فسكتت فأعاد لها ثلاثًا ثم قالت: نعم، أخي جساس، فجساس من أشراف القوم، ولم يكن رجلًا عاديًا، فلماذا تقول العرب أعز من وائل كليب ولا تقول جساس؟
حينما قتل كليبًا كان بسبب وعده له أيضًا، فقد قال له كليب حين دخلت ناقة خالته حماه: لإن عادت هذه الناقة في حماي لأضعن سهمي في ضلعها، فرد عليه جساس حينها: لإن أضعت سهام رمحك في ضلعها لأضعن سنان رمحي في صلبك، فكان هذا الرد بمثابة تحد ودينه كبير لرجل مثل جساس، فكان لكليب ما أراد؛ قتل الناقة فكانت النتيجة موته على يد جساس.
ثم لامه أبوه حينما قتل كليبًا وأنه قد جلب لهم حربا، فكان رد جساس حينها بأبيات شعرٍ تليق بمقام فارس لا يهاب الميدان:
تأهب مثل من يبغي الكفاح*
فإن مرادي زاد عن المزاح
وإني إن جلبت عليك اليوم حربًا*
فإني ليث حرب في الكفاح
وكف عن الملام فلست أخشى*
بيوم الحرب من طعن الرماح
وإني يوم تنشهر المعالي*
أعيد الرمح من إثر الجراح
تعدت تغلب ظلمًا علينا*
بلا جرم يعد ولا جناح
وما لي همة أبدًا وقصدًا*
سوى قتل العدا يوم الكفاح
قصيدة تعدت الاثني عشر بيتًا مفادها أن جساسًا كان قادرًا على المواجهة ويعرف الذي فعله وهو الذي قال: أنا أعرف جيدًا ما فعلته ولست بالغر الذي تظنونه، وقال أيضًا: أنا لست نادمًا على قتل كليب ولو عاش ألف مرة لقتلته ألف مرة.
جساس لم يكن يريد تحميل قومه ثمن فعلته، فقد قال لابن عباد عندما قُتل أخوه نضلة: هذا ما كنت أخشاه أن يدفع غيري ثمن فعلتي، لم أكن أريد لأحدٍ أن يتدخل في هذا الأمر، كنت أتمنى أن أفعل ما أنا مقتنع به وأتحمل وحدي مسؤولية فعلتي، وكم أتمنى لو يقبل التغلبيون أن أسير إليهم ويخرج لي واحد من فرسانهم ويبارزني وننتهي من هذه المسألة دون أن يتضرر منها أحد إلا المعنيون منها مباشرة. ولذلك كان جساس يستطيع أن يتحمل مسؤولية فعلته بنفسه، وكان مستعدًا لتقديم نفسه ويقاتل بشرفه وحتى أنه لم يجبر أحدًا للقتال معه، فقد قال لقومه: من لا يريد الحرب ليتنح جانبًا ويذهب للعيش مع الحارث بن عباد، قتالنا سيكون دفاعًا عن كرامتنا وحياتنا.
فهل هذا هو الصعلوك الذي ذكره المسلسل وحطم هيبته وفروسيته وألقى بها نحو هاوية السمعة؟