2024
Adsense
قصص وروايات

( شجرة الزام ) الجزء الأول

خلفان بن علي بن خميس الرواحي

الصمت يخيم على المكان.. ليس هناك أية حركة.. الكل قد عاد إلى مخدعه وسلم نفسه للفراش.. الشوارع تبدو خاوية.. لقد غادرها المارة فلا تجد أحدًا.. حتى السيارات قد أقلعت عن المرور في ذلك الوقت من الليل. وحتى تنام القرية مع أهلها تنطفئ إنارة الشارع فيها مع الثانية عشر ليلا.. الكل سينام حتى البيوت والأشجار وتلك الشجرة في ساحة القرية التي يجتمع حولها كل صباح الأطفال قبل الذهاب إلى المدرسة. إنها شجرة معمرة لا أحد يعرف متى زرعت ومن قام بزراعتها.. جذعها العريض لا يخلو مكان فيه إلا به رسومات وكتابات.. وهناك مسامير وقطع من حديد قد رزت به.. قد غار بعضها في بطنها وبقى شيء من أثره.. في الليل تكون ملاذًا خصبًا للعديد من الطيور وأحيانا تشاركها الخفافيش. أي حركة تحتها تجلب الضوضاء والأصوات المفزعة؛ لذا كان الليل مريحًا لها.. فلا يقترب منها مطلقًا فتحتضن من عليها وتنام معهم.. وما أن تشرق الشمس تستيقظ ويغادرها الجميع ويبدأ الناس في القدوم إليها.
على غير العادة سيارة غريبة تدخل القرية وتحدث فوضى عارمة بالقرية لا يحس بها السكان ولكنها تعكر صفو الهدوء في المباني والأشجار.. تواصل السير في القرية بين الأزقة والممرات وكأن أصحابها يبحثون عن شيء ما.. يصلون للساحة وتقف السيارة بالقرب من شجرة (الزام ).. ينزل أحدهم يحمل لفافة يضعها قريب من جذع الشجرة وهي تراقب الأمر في هدوء وتحافظ على هدوء النائمين فيها.. سريعًا يركض إلى السيارة ويترك المكان بمن فيه.. دخولها كان دخول لص مكتشف المكان وخروجها خروج لص.. قد حفظ الأبواب والمخارج في تلك القرية.. ذلك الشيء المسجى تحت جذع الشجرة لا يتحرك وكأنه قطع قماش ملفوفة لا غير.. حاولت الشجرة أن تعرف كنهه ولكنها عجزت عن ذلك.. كل ما استطاعت أن تفعله هو المحافظة على هدوئها حتى شروق الصباح. أشرقت الشمس وبدأ نورها يتسلل من بين الجبال الشاهقة التي تحيط بالقرية.. وأول ما تقع خيوطها الذهبية على قمة تلك الشجرة كانت أعلى القمم.. ارتفاعها يفوق ارتفاع النخيل.. نثرت الشجرة الحياة على من فيها من الطيور والخفافيش وأيقظتها حتى تبدأ رحلتها في كسب العيش.. ارتفعت الشمس وكست المكان نورًا.. وبدأت الحياة من جديد في القرية.. ومع بزوغها عاد المصلون من المساجد بعد أن أدى بعضهم صلاة الشروق.. النساء في المنازل صحت مع أذان الفجر وبعضهن قبله.. عمل اليوم المعتاد إعداد الفطور للأبناء قبل الذهاب للمدارس وللأزواج قبل انطلاقهم لأعمالهم المختلفة.. النشاط والحيوية يعودان لشوارع القرية التي اتسعت وأصبحت مدينة صغيرة.. كل الخدمات متوفرة بها؛ مدارس ومركز صحي وطرق.. حتى من خرج منها عاد إليها.. فما كان يبحث عنه من أمور أصبحت موجودة هنا.. حتى أنها أصبحت مكتظة بالسكان وعمر كل شبر بها.
خرج ( يحيى ) من المسجد بعد أن أدى الصلاة واتجه إلى بيته في الجانب الآخر من القرية.. تعود أن يأتي للصلاة راجلًا فهو يحتسب الأجر والثواب أولًا وثانيا.. وكما يقال رياضة صباحية. كان يتحاشى المرور تحت الشجرة عندما يقدم من بيته للمسجد ولكنه يمر تحتها عند عودته.. يقف كل يوم لحظات بسيطة يتأمل ضخامتها وقدرتها على الصمود لسنوات طوال أمام كل العوامل التي مرت عليها.. الأمطار والرياح وتعدي الناس عليها.. حتى حيكت حولها القصص والأساطير فأصبح الناس يعتقدون أنها شجرة مباركة.. وما تلك المسامير التي دقت على جذعها إلا نتيجة بعض الاعتقادات التي شاعت حول الشجرة.. خطواته اليوم أسرع من الأيام السابقة وكأن هناك أمر يقوده للشجرة لا يدرى ما هو.. لا يصل أحد قبله لها فأغلب المارين يبتعدون عن الطرق التي تؤدي إليها إلا ( يحيى ).. فلقد خلقت علاقة حب مع الشجرة منذ صغره.. فقد كان يأخذه والده معه عادة إليها بين فترة وأخرى وعندما رحل الوالد أصبحت تلك عادة عنده أن يمر بها حتى إذا لم يمر بها يومًا تقول له زوجته: “اليوم لم تمر على صاحبتك..”.
يصل ( يحيى ) ومن بعيد يرى ذلك الثوب الأبيض بجوار الشجرة وفي داخله شيء من الخوف والرغبة في التعرف عليه.. بدافع الفضول يتحرك ليصل.. وأثنى قدميه ليتناول ذلك الشيء المجهول.. لقد حافظت عليه الشجرة فلم يمسه شيئ.. ارتجاف في مفاصله وتعرق في جبينه وجفاف في فمه فالموقف فيه شيء من الخوف.. يضع يده على قطعة الثوب وكأنه يرغب في اكتشافها بقدم أصابعه قبل كفه.. أنه شيء لين.. وكأنه جسد إنسان.. يضع كفه ليتأكد.. إنه طفل !!!.
هكذا صرخ في داخله.. أراد أن يتأكد.. كشف الثوب من على الرأس.. وظهر وجه كالقمر.. وقف ( يحيى ) مذهولًا من الوقف.. حائرًا لا يعرف ماذا يفعل.. دارت في ذهنه العديد من الأسئلة ليس لها إجابات من أين؟ من والديه؟ ما سر رميه تحت هذه الشجرة؟ ماذا أفعل الآن؟ حمل الطفل إليه وقبله قبلة الوالد لابنه.. بعد تفكير قرر أن يحمله معه إلى البيت.. وهو ينظر إليه.. فتح الطفل- الذي ما زال في أيامه الأولى من عمره- عينيه وابتسم.. وكأنه وجد الحياة في ( يحيى ). دمعت عين يحيى وبكى في داخله وهو يردد: “من يرزقه الله تعالى بمثل هذا الملاك الطاهر ويرميه.. ما ذنبه أن يأتي الحياة ولا يجد أبًا ولا أم؟”. يمشي معه وهو يحتضنه إلى صدره وكأنه وجد كنزًا ثمينا.
اليوم ( يحيى ) لم يمر على أحد كعادته ومن يصادفهم في الطريق لا يكلمهم فالجميع مستغرب من حاله..!
صادف ( أسعد ) يسلم عليه ولكن ( يحيى ) لا يرد ويواصل دربه دون أن ينتبه لأسعد.. وهو يسير يقف ( أسعد ).. مناديا يحيى: “ليست هذه من عاداتك .. ما الجديد اليوم؟ ثم يوجه خطابا لنفسه.. ماذا يحمل يحيى ويضمه إلى صدره؟ “. كل هم يحيى اليوم أن يصل إلى بيته ولا يريد الحديث مع أي كان.. الطريق إلى بيته كان قصيرًا ولكن اليوم يحسه بأنه آلاف الكيلومترات.. يطرق الباب ويأتيه الصوت من الداخل: “مفتوح ادخل ..” تلك زوجته ( آمنة ) يدخل وتستقبله وتنظر إلى ذلك الشيء الذي يحمله وتعاجله بالسؤال: “ماذا أحضرت لنا اليوم؟”
يناولها المولود.. وتصرخ فيه: “إبن من هذا؟ ومن أين أتيت به؟”. يمسك بيدها ويجذبها للداخل ويقول لها “تعالي سوف أخبرك القصة”.
تكشف آمنة الثوب عنه.. “ما شاء الله وجهه كالقمر”.. تنسى كل تلك الأسئلة وتبدأ في تقبيله وتفحصه.. فآمنة لم ترزق بأولاد من قبل.. لكنها تحسن العناية بهم؛ فقد ربت أخوتها وجعلت منهم رجال. ثم تعود لزوجها وتريد أن تعرف قصة هذا الزائر من أين وإلى متى سيظل؟. بدأ يحيى في سرد القصة وهي منصته له.. وفجأة سألته: “ماذا نفعل الآن؟ هل نسكت؟ ولكن هذا الأمر لا يختفي”. وقف يحيى يفكر في الخطوة القادمة ثم رد عليها: “لا بد من أخبار الجهات الرسمية.. وأولًا شيخ القرية وبعدها يصير خير..”. سكتت ولم تنطق بكلمة وداخلها يقول ربما أراد الله تعالى أن يعوضني خيرًا نتيجة صبري على عدم الإنجاب.. نظرت إليه وفي عينيها رجاء: “إذا لم تجدوا له أهله فسوف أربيه ونتخذه ولدًا لنا ..”. يضع يده على كتفها ويقول لها مواسيًا: “إن لم أجد له أحدًا فلن أتركه.. لا تخافي..” تفرح وتظهر الفرحة على وجهها وتأخذ الطفل إلى غرفتها وهي تغرقه قبلات وأحضان.

للقصة بقية.. سوف نتعرف عليها في الجزء القادم.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights