مَن فينا في البطولة كجساس؟ (الجزء الأول)
أحمد بن سليم الحراصي
البطولة أن تكون رجلًا واحدًا يضاهي لوحده ما يزيد عن ألف رجل، أن تكون جريئا شهمًا مقدامًا شجاعًا وذا نخوة وكبرياء لا يستطيع أحدٌ في هذا الكون كله أن يذلك، أن تكون كرامتك فوق كل اعتبار، فبمقدار تنازلك عن كرامتك تتنازل عن حقوقك كلها واعتبارك كله سيلقى حتفه، فلماذا علينا أن نكون إذًا مثل رجلٍ كجساس بن مرة؟
كان جساس رجلًا شجاعًا لا يهاب أحدًا، وكان يلقب بالحامي الجار المانع الذمار، وهو أخٌ لعشرة أبناء، لكنه كان أصغرهم ورغم صغره فقد ذاع صيته أكثر من إخوته العشرة؛ هذا لأنه كان عزيز قومه، وعزيز القوم يتفاخر به قومه، ويصبح بمثابة سيدهم؛ فكلمة من جساس كانت تحرك جيشًا بحجم قبيلة بكر التي يتسيدها أبوه مرة بن ذهل، وبالعودة إلى ما تناقل لنا في المسلسل عن ظهور جساس وكأنه فتى غرّ، وجعل سيد القوم ضعيفًا فإنه أظهر بعض الإيجابيات التي لم يستطع المخرج أو المؤلف أن يتجاهلها في حق هذا الفارس الشجاع، فكان جساس يُقدِّر الضعيف ويحترمه على غيره، فلو تحدثنا قليلًا عن (جحدر)، فجحدر كان محتقرًا من وائل وحتى من قومه، حتى أن كليبًا كان لا يريده أن يجالسهم في مجلسهم، وكانوا ينادونه (جحدر) على عكس ما كان يتمنى أن يناديه أحدهم ب(ربيعة) إلا جساسا هو كان من يناديه ربيعة ويجالسه على أنه واحد منهم، وهو من جعل لجحدر هذا شأنا بين قومه، وجعله يتمسك بحلمه حتى صار (ربيعة) المعروف ذات يوم؛ وذلك كله بفضل جساس فهو يرى في جساس سيده وقدوته، وقد تعلم منه الكثير نظير مصاحبته له؛ وهذا يعني أن جساسًا كان يجير المظلوم ويقوي الضعيف.
وبعدما قتلوا لبيدا اقترح جساس أن يكملوا ما بدأوه، ويلبسوا ملابس الجنود، ويدخلوا القصر ويأخذوا ما فيه، ويقتلوا جنوده، رفض كليب ذلك، ولكن وافقه الجميع على خطته حتى أن أخاه المهلهل قال: أنا مع اقتراح جساس، وعلينا أن نكمل ما بدأناه. وهذه هي صفة قائد تحسب لجساس أيضًا.
حتى عندما ذهبوا لقتال التبع كان جساس أولهم، ولم يسمح لوائل بنفسه للدفاع عن الجليلة بقوله:(أتريد أن يلحق بنا العار يا وائل؟ وتقول العرب: إن إخوتها العشرة لم يحركوا ساكنًا للدفاع عنها ويذهب ابن عمها!) وهنا مربط الفرس وهو أن يكون الرجل عزيزًا ويدافع عن أهله، ولا يسمح لأحد أن يقوم بواجب أهله وهو موجود، حتى وائل لم يكن يثق بأخيه بقدر ثقته بجساس؛ لأنه لا يثق بالسكارى على حد قوله، وهنا ينبغي علينا أن نعترف بأن وائلاً يرى في جساس الفارس الشهم حتى ولو لم يكن يُبدي ذلك أمامه، وهذا ما قاله في آخر لقاء له قبل قتله: (ظننتك فارسًا ولكنني الآن أراك راعيًا)، فالثقة بشخص تجعلك تشركه في خطتك الخطيرة، فخطة كليب كانت خطة كمن يلقي نفسه في النار وخطأ واحد يُكلف حياتهم إلا أنه رأى من جساس الرجل المناسب فيها، ونجاحها متعلق به وبقدرته على الصمود.
ثم استقبل خالته البسوس حتى بعد علمه عن فعلتها، وهي التي أغرت التبع اليماني بأخته الجليلة، لكنه تناسى كل ذلك من أجل علاقات القرابة بينهم، فهذه هي صفات أن تكون قائدًا لقومك أو راعيًا لأسرة أن تفهمهم أن العم يبقى عماً، والخال يبقى خالاً حتى ولو بلغت بينكم المشاكل مبلغها، لكن العلاقة تظل كي لا يضل الأبناء وتنتكس الأسرة والقرابة.
كانت علاقة جساس بابن عمه كليب أو وائل علاقة أخ بأخيه، حتى ولو أظهرها المسلسل بأنها متناقضة ومنتكسة منذ البداية، فجساس قد قال للجليلة: أنا أحب أبناء العمومة ولكنني لا أحب الملوك، وهو الذي يعني في ذلك قوله هذا: كليب كان ابن عمي وصهري وعندما صار ملكًا كنت أطلب منه العدل غير القرابة، ولكنه استبدل بهذا العدل الإهانة، فكان لابد لأحدٍ منكم أن يبدأ هذه الحرب بقتله، لكنه كان خائفًا؛ ولذا كان لزامًا عليَّ أن أفعل ما لم تستطيعوا فعله).
ربما يفهم أحدنا هنا أن سبب مقتل كليب من جساس هو ناقة البسوس لكن الأمر أبلغ من ذلك، فكليب عندما نصبوه ملكًا تجبر عليهم؛ فمنع عنهم الماء والطعام، ومنع منهم حتى أن يوقدوا النار ويكرموا الضيف بقوله: (لا نار إلا ناري)، فكان متجبرا ظالما جائرًا لرعيته، وهنا رد لابن عباد من مرة بن ذهل (أتظن أن جساسًا قتل كليبًا بسبب ناقة؟، إن وراء الناقة كرامة جساس ووراء كرامة جساس كرامة أهله)؛ لذلك سبب الحرب هو رد اعتبار جساس لقومه، فقد قال للجليلة حينما قالت لأبيها أن يعوض البسوس عن ناقتها فكان جواب جساس: ومن سيعوضنا عن كبريائنا؟ فرد لابن عباد ذات مرة بقوله:(كليب كان جائرًا ظالمًا قد جار علينا أكثر من غيرنا، ربما نحن لم نتعود على تقبل الظلم من أحدٍ؛ ولذا كان علينا أن نجابه هذا الظلم بالسيف، فكيف يقتنعون بأننا أهل لرفع الظلم بالسيف وبعد ذلك يظلموننا؟ أنا لا أتأقلم من الظلم حتى لو كان من قريبٍ او ابن عم، وحين فعلتها كنت جساسا، جساس بن مرة أفعل فعلتي وأتحمل مسؤوليتها).
بعد كل هذا هل تظن أن جساسًا جبان؟ لا، فكيف تظن الجبن يكون في شابٍ يثور ثائرته ويقتل ملكًا؟