من طمع.. طبع…!
خلفان بن ناصر الرواحي
“من طمع .. طبع”، هو مثل شعبي معروف، ويضرب في جزاء الطمع، ويعني أن الطمع يطبع على قلب صاحبه ويغطيه؛ فلا يبصر ما يحدق به من أخطار وما هو لاحق به من عواقب.
لقد كثر في زماننا هذا أمثال هؤلاء الأشخاص، وطغى عليهم حب الذات والدنيا ومتاعها، وهدفهم جمع المال والثروات بشتى الحيل والوسائل دون هوادة أو وازع ديني أو أخلاقي، وطال التعدي على حرمات المقابر والطرقات العامة والفضاءات الشاسعة، فامتدت ذراعًا ثم باعًا ثم مئات أو آلاف من كيلومترات، وهي في حقيقتها ليست ملكًا لهم ولا مواريث ورثوها؛ إنما دفعهم الطمع وحب التملك ومقارنة ما فعله الآخرين؛ وما أكثرهم في هذا الزمان!، وكذلك قد طال الطمع عدم أداء الدَّيْن، والالتفاف على الورثة في حقوقهم المستحقة، ووقع الضرر والظلم الأكبر على النساء خاصة؛ حيث استغلت العاطفة خجل المرأة وهُضِمت حقها!، وقد يسري -الطمع- في معانيه أيضًا على حاجة الشخص إلى الشعور بالأخلاقيات الزائدة عن الحد أو المكانة الاجتماعية أو الشعور بأن الفرد أفضل من الآخرين.
وفي هذا السياق نذكر هنا “قصة الطماع والسكين” لعلها تكون عبرة لمن يعتبر، ويستفاد منها الدروس والعبر؛ حيث يحكى أنه كان هناك رجل شديد الطمع مشهور بحب المشاكل والتعدي دائمًا على حقوق الآخرين؛ فاجتمع أبناء القرية التي يعيش فيها هذا الرجل؛ لينظروا في أمره ويقرروا ما يفعلونَ به، وفي النهاية قرروا أن يبعدوه تمامًا من القرية ويطردوه منها لتجنب شروره وفعاله السيئة، فذهب الرجل الطماع بعد طرده من تلك القرية إلى قرية أخرى، وهناك أيضًا تسبب في العديد من المشكلات إلى أهلها حتى طروده من جديد منها، ثم ذهب الرجل إلى قرية أخرى كان فيها شيخ حكيم ومعروف بحكمته وفطنته وذكائه، فذهب الرجل إلى هذا الشيخ الحكيم وطلب منه أن يعطيه أرضًا في وسط هذه القرية؛ فأعطاه الشيخ ما يريد، وبعد فترة قام بالنهب والتعدي على أراضي الجيران وحقوقهم، وتسبب في كثير من الخسائر إليهم، واتجه أبناء القرية إلى الشيخ وطلبوا منه أن يتصرف ويكفيهم شر هذا الرجل الطماع وتصرفه، وأن يعوض لهم ما حل بهم من خسائر فادحة.
فكر الشيخ الحكيم قليلًا، ثم قال لهم: “إن لدي الحل الذي سوف يخلصنا من هذا الرجل ومن شروره، ولكن، دعوني أتعامل مع الأمر بطريقتي الخاصة”، فأرسل لطلب هذا الرجل الطماع أن يأتيه فحضر، وقال له الشيخ: “تعالَ إليَّ غدًا صباحًا بعد صلاة الفجر مباشرة”، وطلب من أبناء القرية الحضور، وعندما جاء الرجل إلى مجلس الشيخ الحكيم قال له أمام الناس: “إني أطلب منك أن تعيد إلى كل شخص حقه، ولك مني أن أعطيك هذه السكين وتذهب بها، ولك من هنا إلى المكان الذي سوف تضع به هذه السكين ملك لك بشرط أن تعود قبل غروب الشمس”؛ فوافق الرجل دون تردد وأخذ السكين التي أعطاها إليه الشيخ، وذهب مسرعًا متجهًا إلى قرية متصلة بالصحراء وسط دهشة أهل القرية من قرار الشيخ وطلبه العجيب! واتجه الرجل مسرعًا يحاول الوصول إلى أبعد نقطة ممكنة قبل غروب الشمس حتى يعطيه الشيخ هذه الأراضي كلها وتصبح ملكه، وبعد كل مسافة يتوقف ويرى أن ما قطعه قليل، فيتحرك مسرعًا ليصل لأبعد نقطة، فجلس الناس ينتظرون الرجل حتى حل المساء ولم يعد، وسألوا الشيخ عن مكانه، فقال لهم: “لا أدري.. لكن، سوف نبحث عنه في الصباح”، وفي الصباح بدأ أهل القرية مع الشيخ البحث عن الرجل، وبعد مسافة كبيرة جدًا؛ وجدوه ميتًا ولا تزال السكين في يده، فقال لهم الشيخ: “ألم أقل لكم إني سأحل مشكلتكم وأخلصكم من ذلك الرجل؟ فإنه رجل طماع لا يكتفي أبدًا بما في يديه، وعند ذهابه كان يرى أن كل مسافة يقطعها قليلة؛ فيسعي إلى الحصول على المزيد حتى مات”.
فالحكمة المستفادة من هذه القصة؛ ليتنا ندرك أن هذه الدنيا فانية، ونحن لا ندري متى وأين وكيف سوف نفارق الحياة؛ لذا نقول لأمثال هؤلاء: “لكل منا عمر مكتوب، وهناك حساب وعقاب عند رب العباد؛ فلا توجد دواعٍ للطمع أو اللهث باستمرار وراء الملذات التي يمكن أن نتركها فجأة وراءنا ربما قبل أن نتمتع بها، وكل ما على هذه البسيطة هو ملك لله، وإنما نحن مستخلفون فيه بأداء الأمانة، وبقاء الأثر الطيب. يقول تعالى: “﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾. [سورة البقرة: آية ١٨٨].