أم العوفة
مريم شملان
مغلوبة على أمرها مستكينة، راضية بما تراه أمها لها مناسبا، ولا تعمل شيئًا إلا ما أمرتها أمها به.
مكتسبة من الصبر قوةً، ومن محبة أمها ومن حولها من الجيران أُنسا، وأُلفة، ورضا، وأمانا.
في ذلك المنزل الصغير، الذي وجدت نَفسها فيه من غير أن يكون لها أحد سوى أمها التي تعلم أنها تُحبها
والتي ترعاها حتى أصبحت كبيرة، فصارت ترى الناس ينظرون لها بعين الشفقة لِقلة الحيلة، وصعوبة
العَيش وقسوة الحياة؛ فلا يملكون غير قوت يومهم، أو أقل من ذلك، حتى تجد”أم العوفة” ما تعمل به من خرز الجلود لشراء ما يحتاجونه.
في ذات يوم أتى شيخ البلدة الكهل لخطبتها، وكان رجلًا يحترمه الجميع ويوقرونه، ليتزوجها؛ لم تعد تستطيع القيام بأعمال المنزل الشاقة، أو تلبي
ما يحتاجه، فوافقت الأم على الفور، دون أن تأخذ وقتا للتفكير، وكأنهُ الخلاص، فقط عشرة أيام لتعد عدة الزواج، وكان ما كان الإعلان عن موعد الزواج وموعد الزفاف، فقد دفع مهرها بضعة قروش مما كان يُعد صَداقها لتجهيزها، وقد غادر ليَستعد للزواج، لزواج يعود به شابًا كما يَظن عقلهُ المريض أو خُيل له بأنه هكذا سيكون، ليبدأ تجهيز “العروس”، وهي رافضةً باكيةً بصوت مَسمُوع، ونحيب له وَجّع، رافضةً بين مداعبة فتيات ونساء البلدة وطَرب، وهرج، ومرج، وإطلاق نار احتفاء بزواج الشيخ الذي سيصبح زوجها. فقهوةً تُسكب، وحلوى تؤكل، ووليمةً تُعد وتُساقَ إلى المعازيم…
وأم العوفة تَجمع ما يَسقط بيدها، وتوُثقهُ بِحَبل وتَضعهُ في زاوية المنزل، والعوفة تنظر بصمت إلى ما يحدث ولا تنطق بكلمة واحدة، حتى كانت ليلة الحناء والتي تسبق ليلة الزفاف” المِلكة” أحيانا، ويَصدح صوت النسوة بأهازيج البدويات، وأنغام تهز أغصان القلوب
“لبنية، والكيذة، والسمرة، وحليله”، وهكذا يتنقلن بين الحب والشوق، والبُعاد، والغُربة، بين تلك الضحكَات، وتلاحمْ المَشاعر، ودعوات بالسعادة والهناء لها.
انتهت الليلة، بعودة النسوة إلى المنازل، واستعداد “أم العوفة” وابنتها للهروب من البلدة، وأخذ ما يمكن أخذه، وتوجهت إلى الديار؛ حيث وُلدت ابنتها هناك، وفقدت الأهل والزوج، ومن تُحب،”في سنين الجدري”، وأتت في ذاك الوقت تبحث عن من تأوي إليه بهذه البلدة، في سنوات المرض. تمضي بِخطوات واسعة، مسرعةً، بين الجري السريع واختصار الطرقات، التي تُسلك بين الأودية والشعاب باتجاهات متفرقةِ إلى الجبل، تحث الفتاة قبل أن ينتهي سواد الليل، حتى لا يأتي الصباح ويكشف
– [ ] أمرهما وتقول لها: ” لا تخافي بنوصل”، تحدث ابنتها، وتستمر في خطوات واسعة، دون أن تلتفت خلفها، حتى صارت الشمس في كبد السماء، كما بدت الحجارة الكبيرة بالظهور، وصلابة الأرض ونهاية التربة، أدركتا أنهما قد شارفتا على الوصول إلى الجِبال، والهبوط إلى البلدة الصغيرة التي تقع تحت الجبل، ذو الظلة والذي يُخفيها تحت حجارته الكبيرة المنحنيةِ والشاهقةِ في الطول والتي لا تصل لها حرارة شمس الصيف، وحيث تكون دافئةً هانئةً شتاءً، فتوقفتا للراحة، وشرب الماء، وتنظيف أقدامهما من جروح الحجارة والشوك.. تبتسم في وجه ابنتها وتقول لها:” أنا أشتري يا بنيتي ما أبيع”؛ لتدرك العوفة أن الأمر قد كان مُدبرا بحنكة ودهاء للتخلص من الأقوى بقوة العقل، وليس بالمكانة والسُلطة وهي تَمضي بخطوات حذرة من عُلُو نزولاً، وترى( المنزل)القديم المبني من الحجارة لتجهش بالبكاء صياحا، فتنساق إليها ذكريات وشوق وأحضان كانت تأوي إليها، وقلوب كانت تَخفق بالحُب، والحياة الهانئة، في حين أنّ الشيخ لم يعلم بالهروب إلا وقت الظهيرة، وواجه الأمر بصمت خَشية العيب، والمعرة من مواجهة الناس في تلك البلدة الصغيرة، والتي كان يديرها بأطراف أصابعه لقوته، وفي حين من رَغَب بالزواج منها، وأمها، وصلتا البلدة في يوم هروب من موت وذهبتا منها خوفًا من ظلم بالحيلة والمكر.
فمن أراد لنفسه أن يكون بذرا
في الأرض أكلته طيور السماء.
يا درب. سوقيني يلين الباب
روحي بدت بالشوق ملهوفه
بيتي يتيمة من حصى وتراب
أسمع ونين لساكن بجوفه
غالي خذاه الطير عني غاب
م سمعت لا حسيت بطيوفه
وين الأوادم. وينهم الأحباب
سلمى طوت والعين ما تشوفه
…………
1_خرز الجلود، ترقيع الجلود