المهارات الإنتاجية ودورها في التنمية اللغوية
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
تحدثنا في مقال سابق عن المهارات الإدخالية أو الاستقبالية ودورها في التنمية اللغوية من خلال تناول مهارتي (القراءة والاستماع)، وفي هذا المقال-إن شاء الله- سنتحدث عن مهارتي الإخراج أو الإنتاج، وهما:
أولا: الكتابة: تعد مهارة الكتابة مهارة إنتاجية نشطة كما أن القراءة تعد مهارة إدخالية، والعلاقة وطيدة بينهما، ولا شك أن ميلاد نص أدبي أيا كان نوعه ليس أمرا سهلا، فهو يعد تفريغا لطاقات متعمقة وتجارب متجذرة تستفز صاحبها لإنتاجها، والعمل من حين لآخر على تنميتها، وقد يأخذ بعضنا وقتا ليس بقليل في كتابة مقال أو قصة أو خاطرة أو قصيدة نثرية كانت أو شعرية أو غير ذلك.
ومن عنده حس لغوي من وقت لآخر يقوم بمراجعة أعماله وتنقيحها؛ لينظر مدى التطور الذي حدث في كتاباته خاصة تراكيب الجمل من حيث البناء والإعراب، ومدى استخدام المتلازمات اللغوية في سياقات مختلفة، وبعد تريّث أمام تلك النصوص التي أبدعها يمكنه استنتاج المنزلقات اللغوية المرتكبة التي وقع فيها في بدايات كتاباته، ومدى التطور الذي حدث في مستوى الكتابة عنده؛ وهنا يمكنه وضع خطط مستقبلية لمعالجة نقاط الضعف عنده، والعمل على تطويرها وتحسينها.
وهناك عقبات تحول -أحيانا- بيننا وبين الكتابة، لكن مع الممارسة والتدريب وكافة الأنشطة اللغوية المتنوعة خاصة استخدام استراتيجيات العصف الذهني الجيد يكتسب الإنسان أبجديات كل فن، وقد يستشعر بعضنا من وقت لآخر كذلك فتورا في الكتابة والإقبال عليها، وأحيانا تجف الأقلام وإن كانت الصحف غير مطوية، لكن هي مرحلة -في تقديري- مهمة جدا في حياة كل كاتب؛ لأن كل فترة يحتاج كل منا إلى تجديد نشاطه من أجل تطوير ذاته، ومما يسهم في علاج مثل هذه الحالات كثرة القراءة في الأوقات التي نفقد فيها أقلامنا، (القراءة ثم القراءة ثم القراءة)؛ فإننا نحتاج إلى إعادة شحذ الهمم، والدافعية؛ لنكون أكثر انطلاقا مما قبل، وأحيانا يكون نافعا لو غيّر بعضنا مجال كتاباته، وهذا بدوره سيكون ناتجا من نواتج كثرة القراءة في مجالات متنوعة، وفي أثناء القراءة ستدبُّ الحياة في قلمك من جديد ؛ فيفيض حبره أنهارا ويثمر خيرا، وحينها ستعلم الداء والدواء، وتتيقن أن القراءة الكثيرة أسهمت في الإقبال على ممارسة الكتابة دون توقف طويل، والذي بدوره كان رافدا مهما في تنمية المهارات الكتابية وتحسينها؛ ومن ثم الارتقاء بالحس الإبداعي لديك.
ثانيا: التحدث: لا شك أن مهارة التحدث تتربع على عرش المهارات اللغوية في عصرنا الحاضر، فإذا كنت تمتلك تلك المهارة باحترافية شديدة سيشار إليك بالبنان، وإن لم تستطع أن تكتب نصا لغويا متكاملا، وإتقان تلك المهارة يفتح لنا أبوابا كثيرة مع المجتمع من خلال سهولة التواصل، ونشأة علاقات اجتماعية قوية ومفيدة في كافة المجالات، وغير ذلك كثير، فالمجتمعات تبقى قوية بقوة لغتها.
وتعد مهارة التحدث مهارة إنتاجية كما أن الاستماع يعد مهارة إدخالية، والعلاقة وثيقة بينهما، فلا يمكن أن نكون متحدثين جيدين إلا إذا أحسنا الاستماع والإنصات، وغالبا يلازم كثيرا منا الخوف والقلق في أثناء ممارسة هذه المهارة، وهذا بدوره سيخلق نوعا من الانعزالية بعيدا عن المجتمع؛ لذا لا بد ونحن نتحدث أن ننغمس في المجتمع، لا نتحاور مع أنفسنا فقط -وإن كان هذا مطلوبا في مرحلة ما-؛ فلا يسمعنا أحد، ولكن مكمن التنمية اللغوية في ممارسة التحدث أمام الآخرين، فلكل طريقته وثقافته، والعلم رحم بين أهله، مع ملاحظة أننا في بداية التحدث نستخدم جملا بسيطة تؤدي المعنى بمترادفات ومتضادات ومتلازمات سهلة هينة، ووسائل ربط يسيرة بين الجمل بعضها ببعض، لا جملا مركبة معقدة ألفاظها متقعرة قد يُضل معناها عند آخرها، ولا شك أن لغة الإشارات والإيماءات الجسدية ستغني عن معانٍ كثيرة قد لا تسعفنا المفردات اللغوية في التعبير عنها.
بإمكاننا أن ننمي أنفسنا لغويا إذا كانت نظرتنا إلى اللغة نظرة شمولية متكاملة، ولدى كل منا طاقات كامنة تحتاج من يوقظها ويعطيها قبلة الحياة؛ لتولد وتنمو وتترعرع يوما بعد يوم، ولا ننسى أن هناك فرقا بين معرفة اللغة وممارستها، فلغتنا الحبيبة لا تعطي مفاتيحها إلا لمن أكثر طرق أبوابها ممارسا مهاراتها، فأحيانا يكون البناء صعبا، لكن الأصعب منه المحافظة عليه ومعرفة سبل تنميته وتطبيقها.
وللأسس التي تسهم في تنمية الصحة اللغوية بقية -إن شاء الله- في مقالات قادمة.