المدرسة حياة..التحولات في المجتمع العُماني
د. محمد بن أحمد البرواني
محمد للاستشارات الإدارية والتربوية
alnigim@gmail.com
إن الناظر لحال مجتمعنا العُماني، يلمس بكل وضوح جوانب التغيّر إلى أعلى ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، من حيث توفّر المسكن الملائم الصّحيّ، وسُبل العيش الاجتماعي، وزيادة رقعة الوعي بسبب وجود المتعلمين في الأسرة، مما ساعد على زيادة مستويات الدّخل في الأسرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر وجود أسرة تُعال من مصدرٍ واحدٍ مكوّنة من ستة أفراد؛ الأب والأم، وأربعة من الأبناء والبنات تستمدّ رزقها من الأب عبر وظيفته المحدودة في الثمانينات والتسعينيات، ونتيجة التغيّر التعليمي الذي ولّد تغيراً ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً؛ إذ تحوّل دخل الأسرة من محدود إلى مرتفع بشكلٍ إجماليّ؛ لكنّ التحوّل الحاصل في وضع الأسرة من نووية إلى ممتدة جعلها مستقلة بذاتها ويقاس دخلها وفق كلّ أسرة.
لم يكن هذا التحوّل سبيلاً إلى الأعلى فحسب، بل واجه هذا التحول انتكاسة ظهرت ملامحها شيئاً فشيئاً مع تقدم الزمن نتيجة انشغال الأب والأم بالعمل وقضائهم ما بين ثمانٍ إلى عشر ساعات في العمل دون وجودهم في المنزل، وترك الأبناء مع العاملات ليكتسبوا ثقافات جديدة وسلوك آخر، ويتقمّصون مبادئ مختلفة خارج إطار ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومبادئهم، وتنظر النظريات الاجتماعية على التفاعل المجتمعي بين مثيرٍ واستجابة، وأن تلك الاستجابة هي التي تحدد العلاقة مستقبلاً بين الأفراد، وذلك بعد دراسة الاستجابة وأثرها التبادليّ بين شخصين أو أكثر، وبالتالي فإن هذه الاستجابة هي الانطباع والسلوك الذي يستحسنه الطرفان حسب توافق سلوكهما من خلال ردود الأفعال التي تحدث بينهما بطريقة تدلّ على وجود التفاعل، وفي هذه الحالة يستطيع الإنسان الوصول إلى حالة الإدراك من خلال تحليله لسلوك الأفراد الذي حدث نتيجة التفاعل، وهو ما يحدّد نوع العلاقة بعد ذلك؛ فإن كان الطرفان استحسنا السلوك، فسيحدث التفاعل بغضّ النظر عن حالته وجوهره؛ إلا أن النظرة في الدين نظرة تعتمد التفاعل من خلال القيَم والمبادئ والصفات الإسلامية، التي يتّصف بها الأفراد، وهي مجال التفاعل وجوهر العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين الأفراد، والتي تتمثل في الصدق والأمانة والاحترام المتبادل والالتزام، وهو ما يولّد الثقة، وما يزيد من التفاعل الاجتماعي بين الأفراد وبعضهم البعض؛ ومن المعلوم أن المبادئ والأعراف المجتمعية الإسلامية التي أكّدت عليها الشريعة هي جوهر الإسلام وطريقه الصحيح؛ الذي ينبغي أن يتمسّك به كلّ مسلم، كما في قوله تعالى: (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)- [البقرة: 112]. وقوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)•[ البقرة: من آية 195] ، وقوله جلّ وعلا: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).[آل عمران: من آية 134]، وقوله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ). [سورة لقمان: آية 18]. ومنه ما ورد عن أبي الدرداء عن الرسول صلوات الله عليه: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء). رواه الترمذي.
فهذه الأسس في كتاب الله الكثيرة والمؤيدة بالأحاديث النبوية الشريفة هي مصدر التفاعل الاجتماعي، وهي الاستجابة التي تؤدي إلى التفاعل الاجتماعي الذي يجب أن يسود بين الأفراد؛ بحيث يتربى أطفالهم وينشؤون وفق ما أراد الخالق جلّ وعلا أن تكون العلاقة في الحياة الدنيا بعيداً عن الإفساد، وهو أمر في غاية الأهمية أن يدركه كلّ عاقل وأن يتبعه كلّ مستمع ويعمل من أجله كل فرد بعيداً عن المجاملة والنفاق الاجتماعي، وهو أمر واضح صريح تظهر فيه المشاعر الصادقة وسهل الإدراك لا تنفك منه العلاقة ولا ينطفئ التفاعل؛ إلا بعد أن ينفكّ الفرد من الالتزام بهذه المبادئ ويبتعد عنها، وهي المنهاج القويم الذي يحكم العلاقة الاجتماعية بين الأفراد ومقدار التفاعل بينهم.
إن هذا التحوّل نتيجة تأثيره الاقتصادي وشيوع الأسرة النووية والتي أدت إلى وجود المربيات، وشيوع ثقافات أخرى يجب أن تحكم فيه العلاقة، خاصة أن الطفل كما يرى (فرويد) في نظرية التحليل النفسي مزوّد بمجموعة من الدوافع الفطرية الغريزية الشهوانية التي توجّه السلوك وفق مبدأ اللذة وما يهم الطفل أن يحظى بالمتعة والإشباع، ولذلك فإن المربية تستغل هذه الدوافع عند الأطفال فتعمل على إشباعها رغبة منها في إسكاته أو التقليل من إزعاجها أو انشغالها؛ وبالتالي ينشأ الطفل على عدم قدرته على التحكم بمبدأ اللذة على عكس والديه اللذين يعملان على تربيته بحيث يمنعانه من أن يحظى بالمتعة باستمرار؛ والذي يتمثل في فطامه بعد أن يصل إلى مرحلة الفطام، أو يمنعانه من اللعب بكل ما تصل إليه يداه، ويدربانه على عمليات مختلفة في الاعتماد على النفس؛ مما يوصلانه إلى مبدأ الواقع، وبالتالي قدرته على التحكم في لذاته وشهواته، وهو ما يوصله إلى التمسك بالأسس الإسلامية التي أشرت إليها وحددها الشرع الإسلامي في منهج الله تعالى وسيرة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الأسرة أن تلتزم بهذه المبادئ كما تلتزم بقواعد الانضباط في العمل والالتزام بالدوام والحضور في الموعد المحدّد.
وينبغي على الأسرة التي يعمل الوالدان فيها أن تأخذ أبناءها إلى الجدة إن استطاعت، وإن تعذّر ذلك فمن المهم أن تقضي وقتاً أكبر مع الأبناء بعد العودة من العمل، وفي الإجازات، وأن تهتم بأطفالها بصورة أكبر دون تركهم للعاملات لينهل بصورة أكبر من ثقافة الوالدين، وتعمل على إدماجه بالأطفال في إطار الأسرة والمجتمع بشكل مخطط ومدروس في الحالات التي يستنبط منها القيم والمبادئ والعادات السليمة، وكذلك فإن على متخذي القرار أن يدركوا التحولات ومآلاتها، وعليهم السعي إلى تقديم كلّ ما يساعد على مكوث الأبناء مع أسرهم حتى بنسب معقوله؛ وهذا يقودنا إلى أهمية التقليل من ساعات العمل الكثيرة والإجازات الأسبوعية القليلة وإتاحة الفرصة لإيجاد حضانات ترتبط بالعمل.
إن تنشئة الأطفال التنشئة غير السّوية المخالفة للقيم والمبادئ تؤطر لمشكلات عديدة ستواجه المجتمع؛ فعدم قدرة النشء على التحكم بمبدأ اللّذة سيجعله مستقبلاً يحصل على ما يريد بطرق ميكيافيلية بمقياس الغاية تبرّر الوسيلة.