(وقفات رثائـية..) -الموت حقّ_خلفان المحروقي-
فؤاد آلبوسعيدي
الإنسان المؤمن بالله والمطمئن يقيناً بالحكمة الرّبانية في خلقه للحياة وللممات في العادة عندما يرى فراق أحد أحبّته أو يسمع عن خبر الوفاة من الآخرين لا يسعه أن يقول حينها سوى كما نقول ونردّد دائماً “الحمدلله هو المُحيي وهو المُميت وفي كلّ حال وأمرَ هو الخالق والباقي والمُطاع دائماً”..؛ جاء أمرَ القاضي ولسنا نقول في هكذا مواقف تمرّ بنا سوى عظّم الله أجرنا وأجور جميع محبّيك صغيرهم قبل كبيرهم أيّها الشّهم الذي تركتنا مع ذكرياتنا الجميلة معك، إنّ وفاة الأحبة وخصوصاً الكبار منهم لهي طائفة لتلك الأضواء الزّاهية التي كانت تنير أركان البيوت بفضل ما يمنحه هؤلاء الراحلّون مثلك من الحكمة والنّصح والرّاحة والطمأنينة لنا في وجودهم بيننا؛ قد رحلت عنّا دون أن نرى منك ما يسوؤنا ودون أن يدركنا عنك شـيّـناً من الأمور ما قد يُبغضنا عنك أو حتى أنْ يمسسْنا من الفعل أو القول منك ما قد يؤلمنا بسببك؛ هو أمراً قاضياً وحُكماً من الله سبحانه تعالى وتقديره الحكيم الذي قال في مُحكم كتابه الكريم.. {كلّ نفسٍ ذائقة الموت}؛ هو البارئ الذي ما ذكر لنا ذلك إلاّ ليوضّح لنا سنّة من سُننِ الحياة التي علينا قبولها وارتضاؤها رغم ما فيها من شدّة أحزانٍ ومرارة آلامَ الفقدِ التي تعصرنا والتي ستبقى معنا زائرة ومقيمة في أفكارنا لفترات طويلة؛ وإنّ في الحياة حكمة وكذلك الموت ما هو سوى امتحان وابتلاءٌ من الله لنا نحن البشر؛ وإنّ الموت هو أنْ نتقبّل تقدير ما جاء في حكمة الخالق الذي قال في كتابه الكريم.. {ولكلّ أجلٍ كتاب}؛ وما قوله تعالى ذلك سوى لكي نجد في تلك الآية جبراً لخواطرنا وأيضاً من أجل إفهامنا نحن البشر بأنّنا نعيش دائما بين الحياة الممدودة والممات المنزوعة.
-أحياناً يبلغ ميزان سوء الظنّ عند بعضنا بقدراتنا الفكرية أو بـمقدار تحكّمنا كما نريد بما قد يذهب إليه النّشاط العقلي العجب العجيب بل وقد يجعلنا نفند وننفي أقوالاً تقول بأن الإنسان قويّ في معظم حالاته النّفسية وبإنّه يملك القُدرة المُطلقة والإستطاعة الكاملة في أن يكون المسيطر على تلك الأفكار المشوّشة التي قد تؤثّر سلباً على ذهنه في الحالات المُحزنة؛ أثـناء مرورنا عند بعض اللّحظات سواءاً أكانت تبثّ علينا مشاعراً سارة أو أكانت هي لحظات تملأ في عقولنا هموماً وفي قلوبنا شجوناً وفي خواطرنا تلبّدها المشاعر المُحزنة جدّاً نحن قد يعيدنا الشريط الذّهنيّ إلى الكثير من الأحداث والمواقف والأقوال التي مرّت علينا فيما مضى من أيّام وكأنّها مشاهد سينمائية سريعة؛ قد تتكرّر معنا في أفكارنا الكثير من الأمور الغابرة التي تجعل لحظاتنا اليومية سجينة لها بل وتمتلك تركيز أذهاننا مع توارد تلك الأفكار والأقوال والأحداث حتى نكاد الوصول إلى الهذيان الذي يجعلنا نتساءل.. ما هي القضيّة التي تؤرّقنا؟!.
-بتّ أتذكّر مع كلّ ألم فقدٍ حزين يمرّ بي إحدى العِبارات النّصية التي قرأتها ومررت عليها سابقاً..
(إنّ قضيّة الموت ليست على الإطلاق قضيّة تُعنى بالميّت فقط، إنّما هي قضيّة نحن الباقين).
نعم إنّ الموت لا يعني فقط الميّت الذي يذهب عنّا بل هي قضيّة في الحقيقة وفي الواقع تعنينا نحن الأحياء الباقون أساساً في المقام الأوّل؛ يكفي أن تمعنوا التّركيز في ذلك القول لتفهموا وتـعوا الكثير عن الألم والحزن الذي يستأسد علينا عندما نفقد في حالات الوفاة مهما اختلفت أسبابها من نحبّ ويحبّنا؛ ركزّوا في ذلك فقد يكون ذلك سبباً للتّفكر والتّذكر والعِبرة بأنّ الدنيا فيها حياة وفيها موت.
-في يوم ما سيحين الأجل حيث يغادر الآباء والأمهات عن هذه الدّنـيا؛ في زمنٍ ما عِلمَه عند ربّـنا الخالق العليم عندما تحين ساعة وفاتهم المكتوبة في اللّوح المحفوظ وعندما يأتي الملك عزرائيل عليه السّلام معلناً عن سكرات الموت حيث ينادي الرّوح فيقوم بإخضاعها صاغرة لكي يردّها سامعة وصاغية إلى ما قدّر لها بأمر الخالق..؛ حينها تصغر الدّنيا علينا رغم أنّها أكبر من أن نتصوّر حجمها الكبير؛ في تلك اللّحظة سنجد بأنّ المنارة التي كانت تنير زوايا الدار التي كنّا نقيم فيها مع الرّاحل من الوالدين قد إنطفأت وأظلم وهيج نورها بل أنّنا أحياناً قد لا نجد بعد مُصاب الوفاة أيّ بصيص من النّورِ الذي بالإمكان أن يملأ عيوننا شعاعاً نستدلّ به طريقنا أو ضياءاً يحيطنا في كلّ خطواتنا عندما نحتاج إلى ضوءٍ يهدي سبيلنا الذي نراه مُعتماً رغم وهج نور الإيمان الذي يدلّ على القبول بما قدّره الله لنا من أحوال؛ هي إذن قضيتنا نحن الأحياء فالرّاحلون عنّا يذهبون إلى ربَهم ونبقى نحن نقاسي مع قضية الموت لوحدنا لأنّهم كانوا حماتنا ونحن صغاراً ودرعاً يحمينا من المهد وإلى أن كبرنا؛ تنفطر قلوبنا لأنّهم كانوا ركناً آمناً يُسنِدنا قبل السّقوط عن مقاماتنا ومبادؤنا حتّى ونحن كباراً، كونك أنت من أحد أولئك العظماء الذين عرفناهم ولمسنا منهم أدوارهم الأسرية العظيمة حتماً إنّ في رحيلك لعظيم الألم والاسى في قلوبنا جميعاً.
-تُكتب الكلمات في كثير من الأحيان من أجل رثاء الذّين يُكتب لهم فراقنا وفراق الدّنيا بما فيها من أحباب..؛ ولكن هنا سنكتب رثاءاً عن أحوالنا بعد فقدان من أحبّنا كثيراً وجعل من الجميع أبناءاً له وأخوةً له؛ هي أحوالنا التي نرثاها بعد أن فرّقتنا الأقدار المُقدّرة وباعدتنا عن ذلك الأب الذي رفعنا إلى مقادير الأبناء الأعزّاء في داره الكريمة.
-يرحل الآباء فنحزن كثيراً على وفاتهم ويؤلمنا المصاب الذي أحلّ بنا أشدّ الألم ولكن أفضل ما يحصل بعدها هو أن تجد شخصاً في صفاته وخصاله وفي تعامله معك من تعتبره أبـاً لك بعد أبـاك الرّاحل ويعتبرك جزءاً من أسرته بل وقد يجعلك في مقامات الأبناء فيـشاورك أحياناً عندما يتطلّب الأمر مشورة الأبناء ويمنحك نفس مقادير الثّقة الممنوحة لأبناءه.
-رحيل ووفاة الأحـبّة يؤلمنا كثيراً ويقطع عنّا للحظات وربما لأيّام كثيرة وسنين مديدة مشاعرنا وأحاسيسنا عن العالم الذي يحيط بنا؛ هول الوفاة تؤثّر علينا ولكن ما يصبّرنا هو الإيمان بعظمة الخالق الذي يحيي ويميت؛ ما يخفّف عنّا كبر المصيبة هو وجود ذلك الرابط الديني الذي نشأنا معه منذ الصّغر فكبرنا ونحن نسمع دائما ما يقال عند المصائب (أمر الله مطلع) و (لا حول ولا قوة إلا بالله) و (الله الباقي) وغيرهن من الجُمل والعبارات التي وُجِدت سوى من أجل التّخفيف عن شدة مصائب رحيل الأحـبّة العظماء.
-يكتب ويقال الكثير عند وفاة من نحبّهم فلعل بعض تلك الكلمات تكون برداً وسلاماً على تلك القلوب التي يعصُرها ألم الفقد والوفاة؛ وإنّي أُشهد الله بأنّ المغفور له العم والوالد خلفان بن سعيد المحروقي الراحل عنّا قد ترك هذه الدّنيا وهو أحد أحبّ النّاس في قلوبنا؛ نُشهد الله بأنّه ما شكى لأحد حاجته وما كان ضعف حيلته في سنين عمره الطويلة إلاّ ذلك الدّافع الذي جعله صانِـعاً للخير من أجل الغير متى ما استطاع ذلك؛ أُشهد الله بأنّي ما رأيت فيه سوى الشّخص الكريم ذي كرامة النّفس رغم كثرة مشتاق الحياة، شخصاً نبيل المقاصد محسناً للنّية في تعامله مع الآخرين؛ أُشهد الله بأنّه كان محبّاً ومُثابراً على قلّة إمكانياته من أجل أسرته وبالذّات زهراته الخمس اللّواتي تركهنّ في أحسن حال؛ يرحل عن الدّنيا وجاء أجله وكتابه وهو زائداً ولم يكن زيادةً عليها بل يتركها وهو أحسن ممّا رآها ووجدها في سنين عمره الطويلة.
فاذكروا محاسن وكرامات موتاكم السّابقون الرّاحلون أيّها الأحياء اللّاحقون الباقون إلى أن يحلّ أجل كتابكم كأولئك الرّاحلون.. فإنّ {كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ} ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم و {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.