الشيبة
مريم شملان
هناك في تلك الرقعة الخالية البعيدة، تطأ أقدام الرعاة، ويتردّد صوت من يحدُو للحبّ والبعاد والفراق، وكأنه التناغم الحياتيّ، والمنظومة السهلة التي كان يتعايش عليها البدويّ ذو الفطرة البسيطة في صبره ووجعه وأيامه التي تَمضي بجمالها وبكلّ ما فيها من مشقّة ووجع وألم؛ حيث ألِفها الناس، منهم الذي استوطن حديثاً، ومنهم العابر، ومنهم من وجد الطمأنينة مما كان يخاف منه وهو يجوب القفار، إن كان وحيداً أو لديه من يحمل همّه في ذلك المكان، حيث يلتقي فيها العابرين، والذاهبين، والساكنين من خوف ومن جوع.
الباحثين عن احتواء الجيرة والعِشرة والأحبّة، هناك في ليالي البرد أو ليالي الصيف بأطراف ذلك المكان الذي تعصف فيه الرياح، وتهزّ أشجاره، و يتردّد صفيرها بجذوعٍ خاوية، لينبت في تلك التربة غَرساً طيباً، ويرتوي من جوفها بمياهٍ عَذبه، لتسقي الظمآن، ويشعر بوجودها الأمان، البدويّ الشاعر الفارس الذي يُمسك بيد التي أحبّها قلبه منذ الصغر، وكانت له السَّند والعون بكل ما كان قد مرّ به، اليُتم، والخُسران المتوالي لإرثٍ كان قد شدّ به الظهر، مِن نخيل غرسها له من غيّبهم الموت عنه، وفرّط فيها ليطعم أفواهاً كانت أمانة في عُنقه، وكانت ابنة عمه له الوتد في عَوزه وحاجته وتنقّلاته من مكان إلى مكان في قلب وطنه الغالي، واللتان كانتا بعينيه الجمال والأمان، والحياة، وهي الصبورة الراضية الواثقة به والقوة الخفيه له بُحبها، ومن أجلهما لم يبارح وطنه لا براً ولا بحراً، فكانتا في قلبه العشق الأبديّ، ووجد له مكاناً هنا؛ حيث تسكن روحه بقرب من يُحبّ، وتتعلق عيونه بليالٍ مُظلمة ونجومها الضاحكة، أو مُقمرةٍ مُضيئة؛ حيث يكون فيها السهر والأُنس، والفرح والحبور يَجمعان الجمال والألفة، والبدر يُضيء الأرض وكأنه يستأنس بمن وجد، “والشيبة” بصوته يجذب من سامري الليالي ليكون حوله المُنصتين، والبدر يقترب ويكاد باقترابه “الشيبة” يلمسه بيديه، وحين تُمطر السماء وينمو العشب وتزهر الأرض ويَسعد الرعاة ومَن حولهم بالخير العميم، يأتِ المساء ويأتوا إليه مَن أحبّوه واتخذوه أميناً عليهم، بمكان اتخذه للراحة وشرب القهوة وتناول ما تجود به النسوة مما أعَددن من وجبات الطعام، إن كان لضيوفه أو كان لأقربائه، ليلتقي بهم مبتسماً ذو الوجه البشوش، وهو المُحب لهم والسعيد بهم، وهم يشعرون بالأمان في وجوده، وهو القادر على نصرة من أتاه هارباً مقهوراً، وأصبح من الجور منصوراً، قادمين إليه ليأنسوا من حديثه وقصصه وهزج “الونة” يتردد بصوته الشجيّ، لِيغرس الحُبّ في صدى الأودية والشعاب التي تُحيط به في تلك البقعة الخالية، ومن تجمّعوا حوله، يهزّ عرش القلوب، يداوي مَن كان به جرح، ويعين من كان في حاجة إلى عَون، هكذا قضى عمره الثمانين وهو يُساعد ويهَب ويمنح ما يستطيعه، ويُوقف نزيف القلوب المجروحة ويَملؤها بالحب والفرح، لتنتهي رحلته بنزيف جرحٍ أصابه ولم يتوقف حتى حان ميعاد الرحيل، بوضوءٍ وصلاةٍ وشهادة، ليدرك المَنيّة بلا خوفٍ ولا جزع.