من المجد إلى الإهمال
بقلم – عبدالله بن حمدان الفارسي
لقد اطّلعتُ منذ أيامٍ على مقالٍ لأحد الإخوة المختصّين والبارعين في المجال الرياضيّ، وممّن أكِنّ لهم الاحترام الشخصي والمهني، لما يتميّز به من واقعية التحليل، والعمق المعرفيّ في مجاله، وقد تناول في مقاله الجوانب النفسية وتأثيرها على أحد الرموز الرياضية التي لم تحظَ بالاهتمام بعد التوقف وجفاف ينابيع العطاء، طبعاً حالهُ كحال من سبقهُ وعاصره.
كان المقال بالنسبة لي ولمن اطّلع عليه، ويحمل في قلبه الوفاء والإخلاص والعشق الحقيقيّ لعمان الوطن، هو عبارة عن مرثيّة لوأد عمالقة الإنجازات والمنجزات وهم على قيد الحياة، وأما فيما بعد الحياة، فلا يتعدى الأمر أكثر من الترحم عليهم والسلام، وطمْس معالم ماحققوه في وحل النسيان، وإجبار العقول والقلوب التي كانت في يومٍ ما تصفّق لهم وتهتف بأسمائهم على طيّ صفحات تلك الفترة الناصعة من حياتهم اللامعة والبرّاقة، ورصّها في رفوف التجاهل والنسيان.
فقد جاءت كلمات المقال بسياقٍ مؤثّر مخالفٍ غير مألوف، وعلى غير المعتاد والمتداوَل في هذا الحقل، وكأنه مرثيّة تبكي كواكب تساقطت وتلاشت في غياهب النسيان، ومن وجهة نظري أن ما تمّ تناوله وطرحه في قضايا مشابهة لم يكن بالشكل الذي أثاره الكاتب، فقد تجرّأ في مقاله على طرحٍ أكثر شفافية ومصداقية، نقلاً عن لسان تلك الشخصية وهي تتألم وتشكو من الكيفية غير المهنية في التعامل معها بعد الاعتزال، وفي طيّ الصفحات ومسح ما على الأسطر، وأشار إلى حتميةٍ لا مناص منها، وهي إنصافٌ لمن ضحّى بكل غالٍ ونفيس من أجل رفع راية الوطن في المحافل الدولية، وإسعاد قلوب العمانيين وإدخال مشاعر البهجة والسرور إليها، نَعم، الوطن يستحق منّا الكثير، ومن غير مساومة، ولكن الاعتراف بالجميل هو أقل تقدير لمن مثّل الوطن من تلك الكوكبة الوهاجة التي أضاءت سماء الوطن وملأته فرحاً وابتهاجاً، واعتلت به منصّات المجد، وكانوا صُنّاعاً للتاريخ كلٌ في مجاله، والأمر ليس مقتصراً ومتعلقاً على نجوم الألعاب الجماعية فقط، أو معنياً بفئةٍ بعينها، فهناك كواكب أجادت وتألقت في سماء الألعاب الفردية، وحققت إنجازاتٍ على المستوي القارّيّ بمجهودات تطلّبت الكفاءة المطلقة، والتفرّد في التميّز الذهنيّ والبدنيّ في آنٍ واحد، لتحقيق ما هو أكثر من الألعاب ذات الشمولية، التي تحتاج للتعاضد والتكاتف الجماعيّ لتوزيع الجهد، وتجنباً لإثارة حفيظة بعضهم أو التغافل سهواً عن ذِكر اسمٍ معيّن، أدع للقارئ حرية التحليق في فضاءات التفكر والتفكير، وأرشفة البحث ومحركاته متاحة لمن لديه شغف المعرفة والاطلاع، لأن في طرحي هذا لست بصدد ذكر رموز بعينها، فإن مايهمني هو أن لا نبخل على من أكرمنا بعطائه وتضحياته.
إن الهدايا على مختلف أنواعها ومستوياتها، وكلمات الشكر والثناء بتعدد أوجهها أمرٌ حتميّ ومرغوب، وفي ذات الوقت دافِع لبذل المزيد من الجهد والعطاء والتضحية في مجال المهنة واللعبة، وقد قدمتُ مصطلح (المهنة) على (اللعبة)؛ لأن أكثر الألعاب الرياضية غلب عليها الطابع الاحترافي في عصرنا، وهي لا تختلف عن أية مهنة صناعية أو إدارية، فالأمر سيّان في نهاية المطاف، فالعائد المادي مكسبٌ للرزق، وأيضاً معنويّ من ناحية الإشادة بالجهد ونيل شهادات التكريم والتقدير، ولكن إن خلا الأمر من ذلك وغلب عليه أسلوب التهميش والسعي لبعثرة الجهود ونكران العمل، وفقدان قطرات العرق في أنهارٍ آسنة، فلا بدّ من انهيار قريب ومترقب.
إن الألعاب الرياضية على مختلف انواعها أصبحت عاملاً فاعلاً هاماً في توحيد الطوائف المتخالفة والمتنافرة، ولمّ شمل الإخوة الأعداء في الوطن الواحد، وتوحيد المشاعر ونبذ الخلافات، لذلك تجد أن بعض الدول الشعوب فيها أو الساسة بمختلف الأيدلوجيات والمذاهب تتّحد وتتوحّد بفوز منتخب أو فريق أو فرد من بلدها، ويتكاتف الجميع حوله للظفر بالفوز لرفع راية الوطن، وتخليد ذكراه في لوائح التاريخ المشرّف؛ لأن الفوز والخسارة يعنيان السمو والسقوط للوطن بكافة مكوناته السياسية والشعبية؛ لذلك فإن بعض الدول يكون حرصها واهتمامها ليس على العتاد ووفرة المال ومصادر الدخل؛ لأنها تفتقر إليها نظراً لطبيعة البلد وشحّ موارده، إنما يكون الاهتمام والاعتماد والتركيز على سواعد وعضلات أبنائها الذهنية والجسدية، وذلك بتوفير كل ما من شأنه رفع راية الوطن في المحافل الدولية وتوفير الإمكانيات المتاحة، والتحفيز ليس ضرورياً أن يكون مالياً أو قصوراً أو مركبات فاخرة، المسألة تحتاج بجانب التنمية الذهنية والجسدية التشهير بشخصية اللاعب أولاً على المستوى المحلي، وتعريف العامة به ليكون شخصية شعبية، هذا عامل نفسي معنوي محفّز، كذلك إن عُدِمَ المال أو قل هناك بدائل أخرى لها وقع نفسيّ إيجابيّ على اللاعب بتعليق صورته في شوارع عموم البلاد والأماكن العامة لفترة معينة ليكون مألوفا ومعروفا لدى الشعب، أو بإمكانية تسمية أحد الشوارع أو المتنزهات باسمه، أو إخراجه من قوقعة ومخالب الديون، فلا يمكن لأي لاعب أن يؤدي بكفاءة وإتقان طالما هو مقيّد بأصفاد الديون، كذلك إن أمكن ذلك توفير بيئة عيش مناسبة، فقط للتوضيح فليست كل الدول لديها الوفرة من المال لإغراق لاعبيها به كما تفعل بعض منها، والشواهد والأحداث كثيرة من حولنا، توجد دول لا تملك المال بقدر ما لديها من الإدارة الحسنة، والتخطيط الممنهج السليم لبناء خلايا ذات عطاء وجودة عالية.
لربما أن الكاتب بمقاله أجّج الجمر الذي تحت الرماد لديّ، بالرغم من أن مرتكزاته خصّت واقتصرت في البداية على حالة فردية وإن أشار فيما بعد لبعض الرموز وبشكل تضامني مع الآخرين، ولكنه في الحقيقة فقد لامسَ الواقع الرياضي المحلي ومعاناته، وكانت لفتة من الكاتب وجبَ الوقوف عليها وحسمها بما يجعل حالنا الرياضي أفضل مما كان، وإلا فإن الأمور ستؤول إلى الأسوأ، إن الأفراد والفرق والمنتخبات الرياضية أصبحت ذات شأن مهم، والكثير من الأوطان كانت غير معروفة وبالكاد ترى نقطة وجودها على الخارطة ومجهولة الاسم لدى الكثير من الناس، وبجهد وسواعد رياضييها ارتفعت للمكانة الراقية، واعتلت القمم وباتت ألوان علمها تعرف لدى الأغلبية وتُرفع في أفضل الأمكنة وتُذكر على مدى الأزمنة، نعم هكذا مصير الدول التي تهتمّ بالسواعد والعقول، واتباع منهج التكريم والتقدير والتحفيز.
ما زال هناك الكثير من الوقت للعمل واللحاق بالركب، وهو تكريم المستحق بما يتلاءم وماقدمه حيّاً أو ميتاً، والاهتمام بالنشء والأخذ بهم لتحقيق مايستحق منهم الوطن، والابتعاد عن التفرد في اتخاذ القرار، ونبذ كلمة هذا من شيعته وهذا من عدوه، فإن النعرات والطائفية والانشقاق الحزبي لا تبني الأوطان ولا تنمّي الشعوب.