على ذمّة الشوق
شريفة بنت راشد القطيطية
نعود من الأحلام كأننا خُضنا معارك طاحنة وحروباً بائسة، ونستقيم للواقع بالمراهنة على ذمّة الشوق، ونظلّ على هذه الحال، لا نُؤخَذ أسرى ولا يُطلق سراحنا، في هذا المساء يسجد المحبطون خوفاً من التورّط بالذنوب، ويهترؤون بين الزوايا، تأخذهم الأماني الخائبة لمصدر الضوء، وتتركهم خارج البؤرة ليتقاسموا الرأفة، الأحوال مُثخَنةٌ بالجراح، ومُتعَبة ومغشيٌّ عليها، والعقول جائعة للفكر، والقلوب معلّقة من أطرافها وتنطق الشهادتين، لم نكن على بُعد خطواتٍ كما نظنّ، ولم نكن أرقاماً وحسب، نحن نطفو على بحر الشوق ذاته ونستأصل الولَه، مَن يظنّ نفسه ليمكث فينا أكثر من اللازم، ويعبث بطفولتنا النقية التي تأخذ الضحكات إلى المساء، وينام الحُلم متعباً كأيّ طفل .
قوائم الشوق مدرجة تحت لهفة الحبّ، فإن كان الحبّ حاضراً، فالشوق في خدمته يراقصه ويُفرحه ويحكي له حكايا مرحة، ويعطّل البُعد، ويسهر معه ولا يتركه إلا وقت النوم، الشوق بين جدرانه خذلانٌ وأرصفةٌ باردة، وبعض أناسٍ لا يتركون لكَ إلا الوجع، يأخذون كلّ ألعابكَ وأفراحك، ويصفعون وجهكَ بكلّ حقد، ويتركونك بين عاداتٍ سيئة وشخصياتٍ غريبة، تأتي كأنفاس الشتاء دافئة وحنونة، وتأخذ كل بقايا التنهدات من قلبي، وتعود لتقطع كلّ أنفاسي وتنهّداتي، وتعبث بها وترحل، وحين تشتاق، تُكابر وتصنع من قلبك شتاءاً قاسياً وتطمر أنفاسي بالثلوج، وبصمتٍ يأتي المطر إلى حيث أنا ويمسح دمعي ويتوكّل، يتراقص على نافذتي ويعزف ألحاناً لكي أبتسم، ويأخذني إلى حيث الغيم، وأبلّل خدّي بالنوايا، وأتمنى أمنياتٍ عديدة، وأهمس للمطر أن يُحضر لي حبيباً قد سقاه الغيث وارتوى دوني.
أبليتَ حسناً وأخذتَ كلّ سِماتي وإشراقتي، ألديكَ المزيد لتعبثَ بقلبي أكثر؟ وتأخذ القادم من حياتي وتضعه في خزانتك؟ وتعلّق عشقي لكَ مع ملابس العيد، ويعود قلبكَ كعاطلٍ عن العمل، أتعبَه اللهو في الطرقات، واختبأ في خلوّ الفجر من الضجّة، تعمّق في الهدوء أكثر من اللازم، وترهّلت أفكاره، لعلّه ابتأس وعاد ليختبىء من جديد، لن تتورط في إنجاب الهمّ منّي، ولن أُدحرج الشوق إليك، سنكبر غداً وأرعى قطيع ذكرياتك بلا شكّ، وسأنام عنها تحت ظلّ شجرةٍ لتوقظني وهي جائعة، ولا أتذكّر إلا صوتكَ وضحكاتك، أن تعود متناسياً كلّ العذابات التي قدّمتها لي على طبقٍ من فضة، وتعبّر في ملامحكَ آلاف البويصلات المعتّقة لتتساقط أفكارك السيئة، انحرافٌ عن المسار المطلوب، المخارج والمداخل في الروح اعتلّت بغيابك، وبعثرت كل الآهات، أين من كان يتوافق معي في رواسي الخلود ونفحات الشوق؟ ويكمن في روحه الاستقرار وعميق الأمسيات العذبة، وليكن آخر خيط بيننا عناوين الرسائل التي كنتَ تكتبها دون علمٍ منّي.
فراغاتكَ المليون سيعبثُ بها ادّخاري لحُبك، وأعلم جيداً كم كُنّا نعبّئ الشوق ليجثو ألماً لعنادكَ الذي يضع الحنين في خانة الذكريات، وكم كنا نأتي بالفراغات وقت اللذّة؟ ونعامل الوقت كقاتلٍ مأجور يتخلص من الحنين وقت الفراغ، يمتطي حُلمي فرسهُ ويرحل، وتذبل كلّ المخاوف، فغيابكَ يأتي بالصمت، وأستريح وأظلّ أجدّد ولهي، وغايتي أن أحلم بك، كم أتيت من صوت الغابات وأفرغت ضجيجها في يدي، وأثقلتَ كاهلي بتجاهلك المميت، الشوق حين يتآمر عليكَ يأخذك لتوقّع نهايتك تحت جنون اللقاء، تعمدتَ أن تبقي وهجهك القادم من شاطئ بحر، وأحضرت معك الشوق، كل المداخل مقفلة الآن، ولعلّ قلبكَ خبّأ لي بعض الهمس في مكانٍ ما، ولعلّه عَلم صمتي كيف أبحث في الزوايا عن رائحته تحت السطور.
تأتي من مزارع القطن ممتلئاً بالرّقة، وتحجبكَ بذورها وترتمي راكعاً تحت وقتي المترامي الأطراف؛ لتُطيل العبق في عينيّ، وتكون مأهولاً بالسّكان داخل قلبك، لتظلّ على هيئتك، مساكن رثّة لا تصلح لي، وأنا أعاني تنفّسك الخانق، أن تذبل وأنت تنتظر محادثةً تسأل عن أحوالك ليس عدلاً، وأن تتقاسم الملل وتأكل من نفس الصحن معه يتركك مهملاً، وأن تعتزل الجميع وتقبع في سريرٍ لا يحدّق إلّا بخياله ويوهمك أنه يفكر بك، وأنه سيتراجع عن غروره، ويعتزل النساء، ويعود ليكتب السلام عليكم، عيناك كأول الشهداء في وطنٍ محتلّ مملوءة بالفخر، ومترامية الأطراف، كسماءٍ صافية يعدو فيها الخيال، وتأتي بالمساء ترميه بين يديك، لتطعمهُ بعض الولَه، وتسدّ جوع الليل من جثمانك العالق بين أظافر الموت، يَعدّ على أصابعه ويفكر ويتأمل، وأخذ إبريقاً من الماء وتوضّأ وصلى رَكعتَي استخارة، أعدّ نفسه للندم، إذ فكّر أن يعود إليّ؛ وطرَق باب القمر وأنهى قُبلة الترحيب بكيف حالك؟ لقد اشتقتُ إليك كثيراً، لقد أهداني الله إشارةً، أن أظلّ معكَ وإلى الأبد، آهٍ، لقد تأخرتَ كثيراً، لقد تزوجت وأنجبت عقلاً جديداً.