ذكريات من الماضي…كيف تغيرت الأماكن التي نحبها؟

حمدان بن هاشل العدوي
عضو الجمعية العمانية للكتاب والأدباء
في كل مدينة زرناها، في كل شارع مشينا فيه، هناك أماكن حفرت في ذاكرتنا صوراً لا تُمحى؛ أماكن كنا نعرفها بكل تفاصيلها، نراها كما لو أنها لن تتغير أبداً، لكنها تغيرت.
بعضها تطور، وبعضها اختفى، تاركاً خلفه فراغاً لا يملؤه شيءٌ سوى الذكريات.
سوق مطرح، حين كان القلب ينبض بالحياة.
أتذكر عندما كنت أزور سوق مطرح، عندما كانت الأزقّة تضيق بالناس، والمحلات القديمة تصطفّ جنباً إلى جنب، تفوح منها رائحة اللّبان والبخور، تمتزج مع عبق التوابل القادمة من الهند، ورائحة العود التي يبيعها التجار بمهارة تعكس تاريخهم الطويل في هذه المهنة؛ كنا نمشي بين الدكاكين الخشبية، نسمع صوت البائعين ينادون الزبائن، ونتوقف عند دكان قديم يبيع الحلوى العمانية، حيث كان البائع العجوز يقطع قِطع الحلوى بشيء من البُطء، وكأنه يصنع ذكرى لكل زائر.
عند مدخل السوق، كان هناك صانع الفضة العماني، يجلس وسط أدواته، ينقش بحرفية أسماء وأشكالاً على الخناجر، الأساور، والخواتم. كنت أراقب أصابعه وهي تتحرك بدقة، وأتساءل كم من الحكايات تحملها هذه القطع التي ستنتقل إلى أيدٍ أخرى، وتصبح جزءاً من حياة أشخاص لم نلتقِ بهم.
وفي أحد الأزقة الجانبية، كان هناك مقهى قديم، طاولاته الخشبية تشهد على جلسات المسافرين والبحّارة الذين كانوا يتوقفون هنا قبل رحلاتهم الطويلة في البحر. كنت أحب الجلوس هناك، أراقب الرجال المسنين وهم يحتسون القهوة، يتبادلون الأخبار، كأن السوق هو نافذتهم إلى العالم.
لكن الزمن لا يتوقف؛ تغير السوق كثيراً، توسّعت الشوارع، وأصبحت المحلات أكثر تنظيماً، بعضها اختفى تماماً، واستُبدل بمحلات حديثة تبيع المنتجات السياحية. لم تعد الأزقة تضيق بالمارّة كما كانت، ولم أعد أسمع صوت البائع العجوز الذي يقطع الحلوى، ولا أرى صانع الفضة يجلس في مكانه المعتاد. حتى المقهى، الذي كان يعجّ بالحياة، أصبح مكاناً صامتاً إلا من بعض الزوار العابرين.
هل هذا التغيير أفضل؟ ربما، لكنه سلب السوق جزءاً من روحه القديمة؛ لم يعد السوق كما كان، لكنه ما زال يحمل ذكرياتنا، وما زالت بعض الزوايا تحتفظ برائحة الماضي لمن يعرف كيف يبحث عنها.
في القرية كانت المزارع، حين كانت الجنة أقرب إلينا.
في طفولتي، لم تكن الحدائق العامة هي أماكن اللعب، بل كانت المزارع وبساتين النخيل والليمون والنارنج؛ هناك، بين الأشجار التي كانت تبدو لنا عملاقة، كنا نركض ونختبئ، نسمع حفيف الأوراق، ونشعر برائحة الأرض المبللة بعد المطر، كنا نمد أيدينا إلى أغصان النارنج، نقطف ثمرة، نقشرها بأيدينا الصغيرة، ونتذوق طعمها الحامض وكأنه نكهة من الجنة.
أتذكر تلك الأيام حين كنا نسير في المزارع المروية بالأفلاج، حيث المياه تتدفق بهدوء، تسقي الأشجار، وتحمل معها برودة تمنح الحياة في أيام الصيف الحارقة؛ كنا نمشي حفاة على التراب، نشعر بملمسه الناعم تحت أقدامنا، ونراقب الفلاحين وهم يعملون بصمت، كما لو أنهم جزء من الأرض التي يزرعونها.
واليوم، أين تلك المزارع؟ أين الأفلاج التي كانت تروي الأرض؟ البعض منها ما يزال قائماً، لكنه لم يعد كما كان. بعض الأشجار قُطعت، وبعض الأفلاج جفّت، والمزارع التي كانت تمتد بلا حدود أصبحت اليوم محاطة بجدران إسمنتية، تفصلها عن العالم، وتقطع الرابط الذي كان يربطنا بها.
التغيير، هل هو فقدان أم بداية جديدة؟
التغيير جزء من الحياة، هذا ما نقوله لأنفسنا كلما رأينا مكاناً أحببناه يتغير، لكن في أعماقنا، هناك إحساس بالفقدان لا نستطيع إنكاره؛ ليس لأننا نرفض التطور، بل لأننا كنا نعتقد أن بعض الأشياء ستظل كما هي، أن بعض الأماكن ستبقى شاهدة على الأيام التي عشناها.
ربما لا يمكننا إيقاف الزمن، لكننا نستطيع الاحتفاظ بالذكريات؛ وحين نزور هذه الأماكن من جديد، حتى لو لم تعد كما كانت، فإننا نبحث عن تفاصيل صغيرة تذكرنا بالماضي: حجر قديم لم يزل في مكانه، شجرة صمدت رغم كل شيء، رائحة لبان تفوح من دكان صغير، وتلك اللحظات تكفي لتعيد إلينا شعوراً افتقدناه.