امتصاص الوجع
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
بين حين وآخر –لا محالة- ستحيط بنا آلام وأوجاع، ويتنوع أثرها قوة وضعفا حسب طبيعة الحدث الذي سبّبها، وقد يدخل بعضنا في خضم بحار عميق منها يستسلم لها دون محاولة للخروج منها، ويمر الوقت.. وسرعان ما يتهاوى في منحنياتها، وينجرف في تياراتها؛ وتكون النهايات مؤلمة.
والأوجاع التي نعنيها هنا تلك الآلام النفسية التي تقتحم علينا أنفسنا دون طرق بابها، وتعكر صفو حياتنا، وتكون ناتجة عن تلك العلاقات التي تكون باختيارنا أو مفروضة علينا، ومهما حاولنا الفكاك منا وجدنا سماءها ممطرة، وأبوابها مؤصدة.
وتزداد الآلام وتتشابك خيوطها عندما يكون باعثها من قريب لك أو من صديق عزيز عليك، أو من شخص لم تتوقع يوما ما أن يؤلمك، وحُقَّ لها أن تكون هكذا؛ فعلى قدر العلاقة يكون الأثر.
وتتنوع صور الأوجاع في حياتنا، ويعتقد كثير منا أن من تلك الأوجاع ما لا يمكن محو أثره مهما تغير الزمن، وتبدلت الأحوال، ولعل من يذهب هذا المذهب يكون محقا في بعضه، ولكن.. الذي يترك نفسه تسبح به في خضم هذه المهالك –لا محالة- هالك، ولا أقول: إننا لا نتأثر بما يفعله الآخرون، أو نكون سلبيين في التعامل معهم، أو نطوي صفحاتهم وكأنها لم تكن، فقد يكون من صور العلاج التجاهل والنسيان، أو غير ذلك.
لكن.. هناك رؤية يمكننا من خلالها التعامل مع مثل هذه الأشياء، قد نتألم..، نتوجع..، وقد يكون المصاب جللا بالنسبة لبعضنا، وما علينا إلا أننا نتثقف بثقافة الامتصاص، نعمل على امتصاص أوجاعنا وآلامنا، ليس من أجل الآخرين أولا، ولكن من أجل أنفسنا؛ لنعلو فوق الأوجاع والآلام، لتسمو نفوسنا بالتعامل معها، لنفتّش عن مفاتيح القلوب المجروحة؛ علّها تفتح الأبواب المؤصدة، وستفتحها بإذن الله تعالى يقينا لا شك فيه.
والتحلّي بثقافة الامتصاص يأتي لنا بعد خبرات طويلة من التعامل مع تقلّبات النفوس التي تحيط بنا، نحاول ونجرب أن نمتص أوجاعنا، وستواجهنا إشكاليات في تبني هذه الثقافة والعمل عليها، ونصبح في صراعات نفسية عميقة، ولا يمكن لكثير منا التخلص منها إلا بعد التدريب على كيفية التعامل معها كثيرا، ومع وضوح الرؤية يوما بعد يوم سنصبح قادرين على زراعة ثقافة اجتماعية قد تغيب عن كثير من أفراد المجتمع الذي نعيش فيه.
وتلك الإشكاليات إما أن تكون داخلية أو خارجية، عميقة أو سطحية، فقد تكون نفسك التي بداخلك هي الحائل دون التدريب على كيفية امتصاص الوجع لإزالة ألغامه؛ ومن ثَمَّ يكون الخطب جللا؛ فكوْن نفسك سدّا دون أن تدرك أبعاد هذه الثقافة يفقدك التفكير الصحيح قبل أن تتفوّه بكلمة واحدة، وحينها لا ينفع الندم بعد فوات الأوان، ولو تركت لنفسك قليلا من الوقت لتمتص فيه ذلك الوجع، وتعمل على التحلي بثقافة السمو فوق الأشياء المؤلمة –وحقا مؤلمة-؛ لتغيّرت أشياء كثيرة.
وقد يكون باعث هذه الإشكاليات من خارج أنفسنا من خلال تأثير كثير ممن حولنا في اتخاذ قراراتنا، فقد ينزل بك وجع لو تركت لنفسك العنان للاستماع لرأي الآخرين في التعامل معه، وتقدير أمره؛ لأدخلوك قبرك وأنت حيّ، فقد تكون آراؤهم ورؤاهم وقراءاتهم سحرا لا يمكنك الفكاك منه، وهم لا يدركون طبيعة الأمر من كافة جوانبه، فعيونهم ترى.. تقرأ.. تحلل.. تتبنّى.. تنفث سمومها في داخلك، وأنت تسلّم لهم كل شيء، وكأنك أصبحت دمية في أيديهم يحركونها وقتما أرادوا، وهذا يفقدك نفسك أولا، ويحول بينك وبين السعي نحو تعلم ثقافة امتصاص الوجع، ويمكنك التأكد من ذلك من خلال تنحية ما أقنعوك به جانبا، ومحاولتك التدريب على امتصاص وجع الأثر الذي نزل بك عدة مرات، وبعد مرور فترة قصيرة وانتهاء الأمر، سل نفسك: ماذا لو فعلت كما أرادوا؟ ما عواقب تبني وجهة نظرهم حيال هذا الأمر؟ ألم يكن من العقلانية أن أمتص وجعي وألمي قبل أن أفعل ما فعلته؟ أسئلة كثيرة تتراءى حينها.
وبعد التحلي بثقافة امتصاص الوجع ستصبح شخصا آخر غير الذي تعرفه أنت، أو يعرفه غيرك، وستجد حياتك تغيرت نحو الأفضل، وستنشأ علاقات اجتماعية قوية بينك وبين الآخرين، وستكون شخصا مقبولا لديهم، وسيُقبل عليك كثير منهم؛ ليستمعوا إليك، وستصير رافدا مهما في حياتهم من خلال ما تقدمه لهم من معلومات مهمة في ثقافة امتصاص الوجع؛ لأنهم رأوا منك فعلا قبل أن يستمعوا إليك، وفرق كبير بين ما تطبقه وما تقوله وتتبناه دون فعله؛ حقا، إنها ثقافة امتصاص الوجع.