سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

القضية الخاسرة

أحمد بن سليم الحراصي

لا يستطيع أحد في هذه الدنيا بأكملها أن يجعلك تركع، أنت لست عبدًا لأحدهم، كل من تحدّوك يومًا خسروا، لم ترهبك نعرات الأطفال وترهاتهم يومًا ، أتخافها بعد أن نما لك شارب ولحية؟ كان شعارك دومًا أن الأمور يدبرها لك خالقها، وأنها تجري من حيث لا تدري، فلا قلق ولا خوف ولا وجل، واجهت مشكلاتٍ كثيرة لم تكن تشغل بالك عليها، وواجهت أناسًا لم تهمك مكانتهم ولا هيبتهم بين مجتمعاتهم ، فأنت رجل والرجال قليلون، تصمت طويلًا وتستمع لِما يُقال وتحاول أن تعيد ترتيب الأفكار ليتناسق ردك مع الأوتار، ثم عندما تتحدث تلجم الأفواه وتربط الألسن فتتلعثم ، لم تخف يومًا من المواجهة بل نزلت في الميدان حتى ولو على سبيل ضعفك فأنت لم تكن قويًا ولكن كنت شجاعًا وجريئا؛ فكان لزامًا عليهم احترامك.

القضية الخاسرة هي قضية ترفعها ضد أهلك وأقاربك فتكون خاسرة مهما كانت نتيجتها النهائية إلا أنها ستبقى خاسرة؛ تخسر فيها علاقاتك وروابط الدم الأخوية قبل خسارة أموالك وسمعتك، لن يربحها من رفعها بقصد الانتقام والكيد ، فعندما ترفع قضية لأحد أقاربك ممن هم أهلك لأجل بضعة بيسات قليلة تراها تغنيك عنهم وترفع مقامك بانتقامك منهم؛ ستصبح في النهاية خاسرًا لا محالة، فمن سول له الشيطان سوء عمله لإشعال فتيل الفتنة بين المحبين سيندم أخيرًا ويبقى معلقًا وحيدًا في النهاية. فعار على كل من أباحت له نفسه أن يقتص من أهله وأقاربه في المحاكم وهو يرى في قرارة نفسه أنه المتسيد، وأن الخوف سيجبرهم على الانسحاب والتغاضي عن حماقته وصفاقته؛ لأن في نظره أن المحكمة تنظر إليه بنظر الشفقة فترجح القضية لصالحه وهو لا يعلم بأن المحكمة وقاضيها لا ينظرون إلى الشفقة والتعاطف، وإنما ينظرون إلى الأدلة والبراهين الحاسمة التي من شأنها أن تدين المتهم؛ لأن في نظر القانون أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وليس لك -كمجني عليك- سوى أن تجلب أدلتك وشهودك للإدانة ، فالكلام المعسول والتعاطف والتعبيرات الجسدية الحزينة والمثيرة للشفقة لن تجعلك تفوز بقضيتك.

فكم من قضية في المحاكم كانت بين أخ وأخيه،وبين أب وابنه، وبين امرأة وزوجها، وبين رجل وابن أخته أو أخيه، كلها قضايا خاسرة ، تُظهر لهم الأيام قوة ترابط العلاقات وتماسكها، فلم تكن رصينة يومًا وإلا لمًا آلت الأمور إلى المحاكم فيما بينهم وهم أهل وإخوة، كانت من الممكن أن تُحل بوِّدية ، فالحكام بينهم كثيرون والشطار في حلها يستطيعون ، إن كانت بالتعويض فلتكن وإن كانت برد المظالم إلى أهلها فلترد إذًا، ولكن لا يصل الأمر بين الأهل إلى محاكم؛ فهذا أمر خطير وعار وفضيحة لا يمكن أن تنسى خاصة إن خسرت قضيتك وأنت من ظننت بأنك ستربحها ، ورغم ذلك فالذي اتهمته كان متصالحًا معك ويريد أن يعطيك التعويض الذي اقترحه الحُكام من الجماعة الحاضرين؛ فالصلح كان خيرًا لك من أن تسحب أهلك في المحاكم وتصبح أضحوكة وقضيتك خاسرة في النهاية.

أحدهم كان شكاءً ، كثير التشكي ، لم يبقَ أحدٌ على الإطلاق وهو يعرفه لم يشتكِ منه ، فقد اشتكى بجيرانه واشتكى بأحد أقاربه ، واشتكى حتى بإخوته، لكن أغلب قضاياه كانت ضد أهله وغالبًا لا يربحها -فقط مجرد فقاعة سرعان ما تنفجر- فيرى أن كل المشكلات حتى ولو كانت طفيفة لا تُحل إلا باللجوء للمحاكم، ومع ذلك فهو لم يتنازل يومًا عن قضيته فسرعان ما يستأنفها ثانية ثم ثالثة ورابعة وفي كل مرة خسارة القضية أمرٌ محتوم؛ لأنه يتهم دون دليل ودون أوراق ثابتة تدل على أن هذا الشيء لصالحه حتى صار معروفًا بين الناس بهذا الشأن فلم يبقَ له صاحب وصديق ورفيق؛ لأن الجميع صار يخاف مصاحبته فمزاجه متأزمٌ جدًا ، مرة تراه يضحك معك ومرة تراه يغضب لأسباب تافهة ولن يستمر هذا الشجار في العادة طويلًا دون أن يهددك هذا الأخير بالشكوى عليك عند الشرطة، ولأن المسألة لا شأن للشرطة فيها؛ سيحولها إلى الإدعاء العام وبعدها تصل الأمور إلى المحاكم وهي جلها قضية تافهة وسخيفة.

القضية الخاسرة هي قضية ترفعها ضد أهلك وسندك في هذه الدنيا، فإن لم تكن تراهم هكذا فعليك احترام ماضي أجدادك الذين كوّنوا هذه العلاقات الطويلة الأمد ربما طالت المائة عام ثم تأتي أنت يا هذا ويا هذه لتفسدوها! العلاقات التي امتدت فترات طويلة لم يعكرها شيء، ولم يفسدها أحدٌ، يأتي صغار الأحفاد ليدمرونها ويرسلونها إلى طي النسيان ، إنني أفهم وأعي جيدًا ما يعنيه هذا ،وما سيؤول إليه فلا تحتاج مشكلات الأهل إلى محاكم للفصل بين المتخاصمين، وإنما تحتاج إلى تفكير عميق وناس وسطاء وذلك بقول واحد فقط: نحن هنا لنصلح بينكم وما تطلبونه ندفعه من جيبنا كتعويض ، فكم تريد؟ ألف، ألفان أم ثلاثة آلاف ، نعطيك الذي تريده ولكن لا يصل الأمر إلى محكمة، نحن هنا محكمة ، والمشكلات بين الأهل تُحل بالتسوية ، قل ما عندك وأوجز.

ولكن ذلك الزمان ولى وراح ، إما أن أهل النخوة وشيخ القبيلة والفزعات توفوا أو أن أهل المسامحة والعفو والذين يقبلون الصلح قد توفوا، فأي الفريقين قد مات؟ لا أعرف ، كل ما أعرفه أن يكون هناك احترام وتقدير للأجداد الذين تركوا لنا هذه العلاقات ، فعيبٌ لنا أن نفصلها الآن لتنتهي الصلاحيات ودون رضى الأموات.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights