النحو للكلام كالملح للطعام
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
تُعد اللغة مرآة المجتمع ووعاء الفكر، ويسعى علماء كثر إلى تقديم ما لديهم من جهود علمية في مواجهة تطور المجتمع وتعدد تياراته الفكرية.
ومن هؤلاء العلماء الأجلّاء الشيخ رفاعة الطهطاوي –رحمه الله تعالى- الذي استهل كتابه “التحفة المكتبية في تقريب اللغة العربية” بهذه الجملة “النحو للكلام كالملح للطعام”؛ حيث أسهم بجهد كبير في خدمة اللغة العربية من خلال تجديد نحوها وتطويره، ويعد أحد أركان النهضة العلمية المصرية في العصر الحديث من خلال هذا السِّفر المبارك.
وقد نُشر كتابه “التحفة المكتبية في تقريب اللغة العربية” ضمن الأعمال الكاملة له بدراسة وتحقيق د. محمد عمارة ، وتحديدا في الجزء الخامس منها الذي جاء بعنوان”في الدين واللغة والأدب”، الذي يبدأ من صفحة 161 حتى 366، وتحت العنوان كتب:
كلام بلا نحو طعام بلا ملح *** ونحو بلا شعر ظلام بلا صبح
وقد استهل الطهطاوي تحفته ووصفها وصفا دقيقا، وبين سبب تسميتها بهذا الاسم في قوله:”الحمد لله الذي جعل النحو للكلام كالملح للطعام.. تفي بالمرام، لجزالة اللفظ وحسن الانسجام، لا سيما وأنها مصوغة على أسلوب جديد، يقرب البعيد للمريد المستفيد؛ فلهذا سميتها بالتحفة المكتبية في تقريب اللغة العربية، فهي جديرة بأن تعد من المحاسن التجديدية “. (الطهطاوي، التحفة المكتبية ص163، 164)
ولد رفاعة رافع الطهطاوي في مدينة طهطا إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر (1216- 1290ه= 1801- 1873م)، ويتصل نسبه بالحسين السبط، وهو عالم مصري يعد من أركان النهضة الثقافية في العصر الحديث، تعلم في الأزهر، وقد أرسلته الحكومة المصرية إماما للصلاة والوعظ مع بعثة من الشبان أوفدتهم إلى أوروبا وقتها؛ لتلقي العلوم الحديثة، فدرس الفرنسية، وثقف الجغرافية والتاريخ، ولما عاد إلى مصر ولي رئاسة الترجمة في المدرسة الطبية، وأنشأ جريدة “الوقائع المصرية”، وألف وترجم عن الفرنسية كتبا كثيرة. (الزركلي، الأعلام 3/ 29)
وأبوه بدوي بن علي بن محمد بن علي بن رافع، ويتصل نسبه بأشراف الصعيد وعلمائه، وأما أمه فهي السيدة فاطمة بنت الشيخ أحمد الفرغلي، ويتصل نسبها بالأنصار، وتحديدا بقبيلة الخزرج.
ومما يميز عائلة الطهطاوي أنهم من الأشراف والصالحين، وكانوا يعدون من الأغنياء في ذلك الوقت حتى قبيل إلغاء محمد علي باشا الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها آنذاك؛ مما اضطر والد الطهطاوي إلى الهجرة الداخلية من مدينة لأخرى بحثا عن الاستقرار والحياة الكريمة.
وقد رتب الطهطاوي كتابه على عدة أبواب، وجعلها خمسة عشر بابا بدأها بالباب الأول في الكلام وأقسامه، وأنهاها بالباب الخامس عشر في الجمل الخبرية ، وهو في تقسيمه هذا ينهج نهج بعض علماء العربية في تقسيمات أبواب النحو، ونلحظ كذلك أن البابين العاشر والحادي عشر قد فصّل فيهما الطهطاوي كثيرا من المسائل النحوية المتعلقة بعوامل الرفع والنصب في الأسماء والأفعال.
ومن خلال الأبواب الخمسة عشر نلحظ أن الطهطاوي في مذهبه كان يميل إلى الانتخاب والاختيار من المدارس النحوية عامة، فتارة يرجح مذهب البصريين، وأحيانا أخرى يرجح مذهب الكوفيين، وفي مرات عدة ينفرد برأي مستقل.
والمتمعن في كتابه يرى أن أراءه انتخابية من المدارس النحوية المتباينة، اختار منها الوجه الأبسط الذي يطرد مع التراث اللغوي؛ وذلك ليكون النحو مقبولا لدى دارسه، وقد سعى جاهدا نحو الابتكار من خلال آرائه الانفرادية التي تبرز لنا مذهبا نحويا له سماته وعلاماته، وبخاصة سعيه إلى جعل النحو تطبيقيا وظيفيا، لا نظريا جافا. (كشاش، منهج رفاعة الطهطاوي ص9 بتصرف)
ونلحظ كذلك أنه في بعض الأبواب، وبعدما يفرغ من الشرح والتوضيح يردف كلامه ببعض الجداول التوضيحية؛ ليسهل المادة العلمية التي شرحها في قالب جذّاب، وكذلك يقوم في نهاية كل باب بعمل ملخص لما تم شرحه في صورة موجزة من باب التسهيل والتقريب.
وأما ملامح فكره في كتابه وأبرز سمات التجديد والتطوير لديه فهذا ما سوف نتناوله في المقال القادم إن الله تعالى.