يبكيكِ القلب والندى
ميَّاء الصوافية
كنت أراكِ كأصل يأخذني إلى جذوري؛ حيث رائحة العطر العالقة في جدران أرضي الزاكية، فيعلق شيء منه بداخلي هو فرح الذكريات؛ وقد افترش قلبي حينها حضن المواساة تحت ظلال الدوح بعد معاناة فقد الجذور وقداسة ودهم، وغياب الارتواء من قِبلتهم، كل ذلك ألملمه في حقائبي الحينية؛ لأفتحها حين أدير عيني بحثًا عن وطن اللقاء.
زارني الأسى حين غفوتِ غفوتكِ الأبدية، ولم تلتحفي بشمسك الدنيوية، كانت مهجتي حينها ما زالتْ عالقة بطيوفكِ متشبثة ببقايا عمركِ، وعودة عافيتكِ.
طيوفكِ التي تمدني بفرح الحياة، وهي مكتحلة بضياء الجمال؛ لأني أراها نبتتْ حيث ظل البهجة، وما زالت تنبض بحرارة الدفء، حين نرتمي في حضن الحنين.
أتذكر وجودكِ؛ فأقفز من صهوته إلى مدادكِ الأبيض في صحائف المُلِمات، ما زلتُ أتذكر يديكِ الندية تنثر النور؛ فتستل عتمة الأرواح من ليلها الحالك إلى ضياء النجمات، وترسل لها وهجًا من نور، وتسرج لها سراجًا ترتعش فتيلتاه سعادة وبهجة.
قد غابتْ الأسماء من مخبأ ذاكرتكِ، لكن اسمي ما زال عالقًا مرتسمًا في قلبكِ كأرض حياة.
أراكِ فأشعر بأني ما زلتُ حية بكِ، أتمدد حول أوراق الأحداث؛ فالدنيا ممتدة بكِ، وكأني في عزاء بكِ عمن توارى خلف جدران زماني.
معناكِ كمعنى الشمس في السماء، تبعثين لي بامتداد الحياة، وبمعنى الحضن حين لم تغب عنه ضمة التعلق الفطري.
أنتِ كأنفاس الأرض تخرجين الحياة، وكمشعل حملهُ ساري ليل يبحث عن ينبوع للأمل، وقد استنار بمحياكِ عابد سار على وهج طريقكِ؛ ليسمو به في محراب السماء، رحلتِ ولو يزيد العمر عمرًا ما بخلنا به عليكِ.
هذه سهام الموت تصيب مرمى حياتكِ، فكأنها قد أطفأت تلذذ أنسنا، وجعلتنا نمشي حافين عُزَّل في دروب الفراق بلا تعويذات صدقكِ، وأكفِّ دعائكِ.
من غاب إنْ بقتْ أنفاسه فسيعود لكنكِ رحلتِ دون عودة؛ أُغلقتْ الأبواب، ولا سبيل للوصال، هذا هو الليل ينتحب؛ فقد غابتْ سكينته بمغادرتكِ، وأوقد رحيلكِ النار في انتكاسات هزائمنا، أما الدمع فقد شاب في قيعان أعيننا …وما أمر الأسى برحيلكِ!
تمنيتُ عقارب الساعات أنْ تعود بأدراجها؛ حتى تبقى الأمواج تبلل شواطىء أماني… لكنها لحظة الفراق الغير مفهومة؛ ما بين تصديق بلحظة أخرى للقاء آخر في العالم الأخروي البهيج، وما بين غربة الحسرة المحملة بالأنين الصارخ غير المصدِّق والصامت المصدوم.
ها هو الجود يبكيكِ، ويرثي نداكِ؛ فكم استظل الكثير بكنفكِ الظليل، ولكم أطعمتْ يمناكِ ذا مقربة ومتربة في يوم ذي مسغبة!
والأضياف كأنما أراها للتو تنزل أشرعتها على مرافىء بيتكِ، لأنك آمنتِ بأن قِراهم من الإيمان.
يسائلني الغيم ألا في الأرض من شبهٍ
في مثل جوده العاطر المَطِر؟
وهل ما زال في الأرض طيب نعيش به؟
أم ما عاد يشبهه ظل، ولا أثر؟
وهل أمطرتْ العينان من ولهٍ، بعدما غبتِ وسقياكِ المطر؟
وهل ما زال في بعض الجواب رضا
أم غاب معكِ معسول الكَلِم؟
نعم، يا غيم إن لكَ في الأرض ما شابهَ الدِّيم
فقد أخضرتْ الأرض من مزن تسكبه
وفي طيبها لأفئدة أثر
هي البشر حين نذكره
هي الروح في معناها العِطِر
جاد بها الله في أرض نعيش بها
وكأنها الجود إليها الكل مرتحل
تغمدها الرحمن بموت ألم بها
وما في اليد من حِيَل
وما عادتْ العينان تبصرها
غادرتْ عنا وغادر الأثر
يارب اجعل الكوثر شربتها
وبشّرها في لحدها بالمِنَنِ
واعف عنها يوم العرض تحشرها
فأنتَ الرحيم وهي حين الضعف في وَجَل
واجمعنا بها في فردوسكَ الأعلى بمغفرة
أنت الغفور، ونحن نشهد بأنك الصمد.