جبل الجليد
د. رضية بنت سليمان الحبسية
أستاذ الإدارة التربوية المساعد بجامعة نزوى
تمثل العلاقات الإنسانية، أهمية بالغة في طريق بناء المجتمعات، فهي ظاهرة يكتنفها من الغموض والتعقيد، ما يجعلها محل دراسة وتأمل لدى الباحثين والفلاسفة على مر العصور باختلاف الحضارات والثقافات المتعاقبة؛ لارتباطها بالسلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية بين بني البشر.
ومع هذه القضية التي تؤرق المجتمعات الرسمية وغير الرسمية، فإن الحاجة ماسة لتفهم وإدراك خصائص السلوك الإنساني، والمعرفة بنظريات تفسير السلوك، وما نشاهد من تصرفات، وما نلمس من رود أفعال تجاه كثير من المواقف اليومية.
ففي كثير من المواقف ما يثير الشك والاستهجان، من بعض الحالات التي يكون الفرد عليها، والتي لا تعكس حتمًا ثقافته، ولا تتماثل مع قناعاته، إذ أن ما يطفو أمامنا من سلوك، يمثل استجابة خارجية، للظاهرة المعايشة، وهو ما يمثله رأس جبل الجليد الذي يطفو فوق سطح الماء، في حين تختبئ كثير من الحقائق في أعماق هذا الإنسان، والذي يشكل قاع جبل الجليد، متجذرا وبعمق في شخصيته وثقافته، وهو ما يوصف بالمكونات الداخلية، اللاواعية لذلك الجبل الجليدي.
وتُمثل الثقافة غير المرئية الجزء الأكبر، والأكثر خطورة في السلوك الإنساني، فهي تتشكل من مزيج من القيم والمعتقدات والأفكار، سواء أكانت متوارثة عبر الأجيال، أو مكتسبة بفعل العلاقات المجتمعية المعاصرة، ناهيك عن التأثيرات الثقافية المستوردة، وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على طرق التفكير والممارسة والسلوك.
لذا فإن الوعي بمكنونات وطبيعة العلاقات الإنسانية، يساعدنا وبشكل كبير في تفهم شخصيات من حولنا، والبحث لهم عن أعذار لما يمكن أن يكون منهم، خاصة في ظل الظروف الحرجة، والحالات الاستثنائية، الناجمة عن ضغوط الحياة وتقلباتها.
ويقول الله سبحانه وتعالى في محكم آياته: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. (سورة النساء، الآية ١).
يكاد لا يخلو يوما إلا وكان للمواقف الحياتية من التعقيدات، ما كان سببا وراء كثير من المشكلات التي يمكن أن تأخذ منحى ومسارًا ما كان لها أن تكون. كل ذلك نتيجة التسرع في إصدار الأحكام، أو التأثر بآراء من حولنا، دون التأني في تحليل المواقف، والاكتفاء برؤيتها من زاوية ضيقة، ووجهة نظر محدودة، قد تكون قاصرة بشكل أو بآخر، والنتيجة فقدان الأفراد الذين نتعامل معهم، بغض النظر عن درجة العلاقة التي تربطنا بهم، أو نوع العلاقة التي تحتم علينا التعامل معهم.
فإذا ما كنا ننشد علاقات إنسانية ذات ديمومة، يسودها التآلف والتعاون، كان لزاما علينا مراعاة كثير من الجوانب التي تدعى باللمسة الإنسانية، والتي من شأنها استبقاء الناس في حياتنا، وإن اختلفت آراؤنا ومعتقداتنا، وإن قابلها خسارة المواقف، فكسب القلوب مقدم على كسب الظروف.
فعلى سبيل المثال: حسن الاستماع والإنصات للمتحدث، ومنحه حق التعبير عن آرائه، ومنح أنفسنا فرصة أكبر للإحاطة بكافة جوانب القضية، وتفهم وجهات النظر المغايرة، فقد تتكشف لدينا من الجزء الخفي ما لم يكن في الحسبان يومًا، مما يساعدنا على اتخاذ مواقف وقرارات أكثر صوابًا. كذلك فإن اختيار الأوقات والأحوال المناسبة، للإفادة الراجعة، أو تقديم الملاحظات، أمرٌ في غاية الأهمية، دون الحاجة لإيقاع الطرف الآخر في مواقف مربكة، تمثل نزعة هجومية غير متوقعة، اتجاه سلوك أو قول يعاكس تطلعاته، أو إبادة لاحتياجاته النفسية أو الاجتماعية، وبالتالي تصاعد المواقف، وزرع بذور شقاق، كان بالإمكان دحض نشوئها، بالانسحاب الآمن من موقف النقاش.
كما أن الاستئناس بذي الرأي السديد، واستشارة ذي العقل الرشيد، اسلوب حكيم في فهم وتفسير المواقف بموضوعية، لا ذاتية تنظر للأمور من زوايا شخصنة، أو محاولة الانتصار لفكرة، لتحقيق مصالح ذاتية، بعيدًا عن العدالة والشفافية، في معالجة القضايا الحياتية.
ختامًا: إن التمعن في النفس البشرية، وما جُلبت عليه من حب التملك والسيطرة، باعثًا أساسيا في تحريكها نحو سلوك معين، وهي في كثير من الأحول، يكمن خلف ذلك السلوك ثقافة لها جذورها، وفكر له أيديولوجياته، التي تجعل فهم وتفسير السلوك أمرًا شائكا. لذا فإن التريث في ردود أفعالنا، أو إطلاق أحاكمنا، يُعدّ من المنطق في إدارة الأمور، والحكمة في قيادتها؛ للحفاظ على علاقات إنسانية مثمرة، قادرة على التعايش الآمن، في ظل التنافسية الفردية، لتحقيق غايات دنيوية.