2024
Adsense
مقالات صحفية

القروي والعاصمة.. (15-15)

خميس بن محسن البادي

من خلال الجزء الماضي تابعنا أن شكيل وسهيلة وصلا القرية والتقيا بالأم وقد سعى شكيل مع والد سهيلة لأجل إنهاء الخلاف بين سهيلة وأهلها دون أن يجد ذلك قبولاً قبل الأب الذي وعده شكيل بمراجعته وسماع رأيه مجدداً.

وفي الوقت الذي بدأت فيه حياة سهيلة هادئة وطيبة مع زوجها وأمه، لم يأل شكيل جهداً في محاولته إصلاح ما أفسدته سهيلة مع أهلها خلال سابق السنين، فها هو يزور والد زوجه في اليوم التالي من زيارته الأولى له، متحسساً موقفه من موضوع الأمس الذي ناقشه فيه حول قبوله الصلح مع ابنته سهيلة، ولكن شكيل لم يجد غير الرفض وعدم تقبل الأب رؤية العاقة المتنكرة له ولأمها وبقية أفراد أسرتها-كما وصفها-، ورغم المحاولات التي أبداها شكيل لقبول الأب عفوه عن خطأ ابنته معهم إلا أنه اعتذر له بعدم قدرته على قبول سهيلة بينهم لعقوقها لهم طوال السنوات الماضية، مؤكداً له بأن له مكانة خاصة في نفسه، وأن طلبه هذا مقدراً لديه ولكنه يجده فوق أن يحتمله وتقبله نفسه، فماذا بوسع شكيل أن يفعل مقابل هذا الرفض بعدم قبول الأب بالعفو والصفح عن سهيلة لتكون بينهم وقد رضوا عنها؟، فلم يكن أمامه إلا أن يضع عمه أمام واقع الأمر. وبذلك، وفي اليوم التالي ومنذ الصباح الباكر أخذ زوجه ترافقهما الأم متوجهين تلقاء بيت الأب والد سهيلة الذي فاجأه وقوفهم قبالته أمام بيته، وتقدم منه شكيل مسلماً عليه، ثم ناوله العصا التي كانت في يده، وأخذ سهيلة من يدها، وأدارا للأب ظهريهما وقد جثيا أمامه على رُكَبِهما فوق الأرض، وطلب شكيل إلى عمه أن يقتص منهما كيفما شاء وبالقدر الذي يناسبه إرضاءً لنفسه ولبقية أفراد الأسرة، جزاءً وعقاباً لهما عما ارتكبته سهيلة في حقهم جميعاً، مقابل عفوه وصفحه ورضاه عنها، مؤكداً له أنه يُقْدِم وسهيلة على هذا الفعل طلباً لرضاه عن سهيلة، وأفلت الأب العصا من يده وهو يستمع لحديث صهره وقد وقف قبالته، وتقدم نحوه وانحنى يرفعه بيديه عن الأرض وحال لسانه يقول ماذا ستترك للرجال من بعدك أيها الشاب البار، وضمه وبقوّة إلى صدره، وهو يقول له بأنه ابن بار لأهله وأبناء قريته، وأنه بعيد كل البعد من أن يكون في مثل هذا الوضع الذي وضع نفسه فيه لأجل من لا يستحق التضحية، وأنه مكرّماً بينهم من أن يمد إليه يده بعنف أو أن ينعته بسوء. هذا ما أكده له ومشيداً بدماثة خلقه وأصالة معدنه، فلم يحتمل شكيل هذه العبارات من شخص كهذا الرجل بطيبته واحترامه وتقديره للآخرين، فسالت عبرات عينيه على خديه دون إرادته؛ فقد كانت تلكم الكلمات أقوى وأبلغ أثراً، والذي بدوره قابل قول عمه له بالمثل من عبارات الإشادة بنبل الأخلاق وحمائد الصفات، وبذلك فقد ترجاه وتوسل إليه بكل تودد وحب واحترام وتقدير بأن يقبل اعتذار سهيلة، فحاول الأب إيجاد الأعذار لـ(شكيل) عن تلبية طلبه لكن شكيل لم يدع مجالاً للأب مؤكداً له أنها زوجه ولن يكن باستطاعته العيش سعيداً ما لم يرض عنها وكل أهلها، مذكراً إياه بما تيسر له من كتاب الله وأحاديث نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تدعو إلى الصفح والعفو وتقبل الصلح والمصالحة والتي هي من صفات المؤمن، وأن يقدّر وصوله ووالدته إليه أمام بيته، وقد ساعدت الأم في إقناع والد سهيلة على مطلب ابنها شكيل، ووجد الأب نفسه أمام شكيل ووالدته في حلقة مغلقة لا مخرج له منها، فقبل الأمر على مضض مشترطاً بأن لا يتعدى ذلك إفشاء السلام مع سهيلة، لكن شكيل طلب أن يكون تقبله للأمر برضاه واقتناعه، بل وبكامل صنوف المصالحة ونسيان الماضي نهائياً وكأن شيئاً لم يحدث، متعهداً له بأن التي أمامه اليوم هي سهيلة ابنته وابنة القرية وليست امرأة أخرى، وأنها جاءت إلى هنا تطلب الرضا لتكون ابنة بارة بهم، مؤكداً لعمه وعده وضمانه له من أن سهيلة ستكون كما كانت في الماضي قبل أن تغادر القرية وحتى أفضل من ذلك، فحاول الأب مجدداً التخلص مما اعتبره مأزق وضعه فيه شكيل العزيز عليه، لكن بصبر وسعة البال لدى شكيل كانت له الغلبة في ذلك فكان له ما أراد وما سعى إليه من خير.

،، فيا أيها الشكيل إنك بلسم الجروح،، والصلح خير.
وما أجملها من لحظات، وسهيلة أخيراً وللتو تضع وجهها مع قدمي والدها ترجو عفوه ورضاه، والذي طلب إليها الوقوف لأكثر من مرة دون أن تفعل فحاول الرجوع للوراء ولكنها أمسكت بقدميه، إذاً وقد عرفت كبيرة العقوق فذلك هو الطلب بتذلل وبإلحاح لكسب رضاه وصفحه عنها ومسامحته لها والتي تجاهد مع أبيها لتدفع عن ذاتها ذنب تلكم الكبيرة، فلم يحتمل هو الآخر موقفها هذا معه فانحنى يرفعها بيديه- إنه قلب الأب- ليحتضنها أخيراً بنفس راضية متقبلة وهو المتحسر على ألم فراقها ونكرانها لهم، والذي تسببت فيه هذه الآتية الباكية إليهم اليوم تكفكف دموع الحزن والندم، ارتمت في حضنه بشوق ثم قبلت يده وجبينه وهي تستغفر الله وترجو توبته وتطلب رضا والديها، وبكت سهيلة بكاءً مريراً وهي في حضن والدها الذي بادلها هو الآخر ذات الشعور، فعلاً إنه الشوق وألم الفراق ولو قسى الأبناء ولو تعنّت الأبوين في قبول الرضا عنهم لكن القلوب تتوق دوماً للقيا والعناق؛ فما ألطف هذه اللحظات.

إنه بكاء الندم والحسرة والأسف والشعور بالامتنان والعرفان بالجميل لشخص شكيل، بكت سهيلة بكاءً أبكت فيه الحضور الذين بيّنوا من خلاله صدق المشاعر وحبهم لبعضهم، وهو ما زاد سهيلة حزناً وألماً عما تسببت به لهم وتطلب إليهم جميعاً وبرجاء أن يصفحوا لها زلتها، وها هو الأب يعاود احتضانها، فهو لم يحتمل أن يراها رغم ما سببته له من مأساة الفراق في تلكم الحال، وأراد أن يخفف عنها وقع أثر وشدة ما تمر به من ندم عما بدر منها في حقهم، وبما يؤكد بأن هذا الأب نفسه كان في شوق مكتوم إلى ابنته الذي يبدو أنه كان يمنعه كبريائه عن التنازل عنه بسهولة، لكن ذلك هو حال الوالدين دائماً يلهثون وراء الأبناء الساهين عن والديهم اللاهين عن واجباتهم نحوهم ولحقوقهم جاحدين، ولكن اليوم وقد عرفت سهيلة خطأها واعترفت به وتقبّلها أهلها وقد صفحوا عنها بعد أن تبين لها خيط الهفوة فسعت تطمس الهوة فزالت الجفوة، وكان شكيل سفيراً لهذه اللحمة المباركة والخطوة الطيبة.

إذاً هكذا التأم شمل أسرة سهيلة بها، فها هي في حضن أمها وإخوتها وقد عمت الفرحة الكل، واعتذر شكيل مجدداً من الأب لربما أثقل عليه وأجبره على ما لا يطيق، مضيفاً أن واجبه الديني والأخلاقي حتّما عليه القيام بهذا العمل الذي رأى فيه خيراً وعملاً صالحاً للجميع، لكن الأب الذي التقط عصا شكيل احتضنه وأعاد إليه عصاه وهو يدعوه بابنه، مؤكداً له رضاه عنه في الدنيا والآخرة وداعياً له بالسعادة في الدارين، وبذلك اقتنع الجميع بوجود سهيلة بينهم وقبلوها كما لو أن شيئاً لم يحدث من قبل، وفي المقابل أصبحت هي غير سهيلة التي غيرت الظروف طبعها وعُرِفت به وشكيل خاصة الذي عرفها عن كثب وتعامل معها بطبعها الذي قرر في ذاته ليعمل على تغييره من داخلها كما هو أسلوبها الجديد اليوم، فهي اليوم كأنها مخلوق آخر، مخلوق تندمل بواسطتها الجروح، جروح الفراق ومرارة الشوق والغربة، وأضحى وجودها يضفي على المكان بهجة وضحكة وفرح وسعادة، وغداة هذه المناسبة الطيبة وعد شكيل عمه بإقامة وجبة غداء للجميع في وقت لاحق، وعاد شكيل ووالدته للبيت مستأذنين الأب وأسرته بعد أن استأذنته سهيلة لتبقى مع أهلها بعض الوقت فكان لها ذلك، وبعودتها لبيت زوجها وجدته ووالدته في صالة الجلوس وبعد السلام عليهما جلست قبالة زوجها وقد أمسكت بيده تعتذر وتبدي أسفها له لما بدر منها بحقه في ماضي الأيام ولما بذله من جهد مع والدها كي يرضى عنها، وما تبع ذلك مما اعتبرته تنازلاً عن كرامته لأجل إنجاح مهمة الصلح التي سعى لتحقيقها مع أبيها، مؤكدة له أنها تعتذر منه اليوم أمام والدته بكل ما تعنيه كلمتي الإعتذار والأسف من معنى، فأخبرها شكيل بأنها زوجه وينشد لها السعادة والتوفيق من الله تعالى في الدنيا ورضاه جلت قدرته عنها في الآخرة، وأن ما اعتبرته تنازلاً عن كرامته لوالدها فإن الأمر ليس كما تصورته، وهو بمثابة أبيه ولا يعتبر ما فعله تنازلاً منه عن كرامته، بل هو واجب وحق له عليهما هما الإثنين معاً، لتقوم من جلستها تقبّل رأسه ثم رأس الأم التي بدورها باركت هذا التوجه وهي تحتضن سهيلة متمنية لهما حياة موفقة وهانئة، كما دعيا الزوجين الله لها أن يمد في عمرها، وبيوم إقامة وليمة وجبة الغداء التي وعد بها شكيل أفراد أسرة زوجه، اجتمع على تناولها أفراد الأسرتين وبعض سكان القرية ممن سمحت لهم الفرصة بالحضور والمشاركة، وكان لسهيلة دور كبير في إعداد الوليمة، كما شارك في ذلك عدداً من أهالي القرية، وبمثل هذه المناسبات والمشاركات تزول عن القلوب الضغائن، وهكذا أوفى شكيل بوعده، وأقام وليمته ابتهاجاً بتحقيق مسعاه المبارك.

وفي القرية أسرّ شكيل سهيلة بسر كانت تتمناه في أوج مشاكلها الزوجية معه، فكم ستكون سعادتها إذاً وهو يبلغها بموافقته وهما هذه المرة في ذروة سعادتهما الزوجية، فقد همس إليها بأنها اليوم أصبحت أهلاً لأن تكون أماً ولهما أن ينجبا الذرية، وسعدت سهيلة بهذا الهمس، وامتدحت شكيل هذه المرة صراحةً بأنه من أطيب ممن صادفت في حياتها، وأنها نادمة أشد الندم عما بدر منها تجاهه، وهو من وقف إلى جانبها وأعادها إلى أهلها، وما بذله من جهد في ذلك، وشكرها شكيل هو الآخر على موقفها الشجاع بموافقتها على شروطه لها، وحمد الله على تحقيق المساعي الطيبة، فوعدته سهيلة بأن تكون وفيةً له طوال ما أعطاها الله من العمر، فشكرها وتمنى لها الخير والسعادة، وأبلغها بتنازله وعن طيب خاطر عن المبالغ التي كان قد دفعها لها لتسديد ديونها، مؤكداً لها أن نجاح حياتهما الزوجية وموافقتها على شروطه في ذلك وتقبل أهلها لها ورضاهم عنها هو بمثابة سداد كل ما عليها، ومضيفاً بأنه لا فرق بينهما كونهما زوجين.

وقد كانت سهيلة وهي في القرية تقضي أغلب ساعات يومها بين أهلها وأم زوجها في ود ووئام وتفاهم وانسجام، وكانت سعادة الجميع لا توصف فرحةً بما تحقق في حياتهم كأفراد أسرة واحدة، وبمضي الأيام انتهت أجازة الزوجين وآن لهما أن يغادرا القرية إلى العاصمة حيث عملهما الوظيفي ومؤسسة شكيل التجارية على أمل أن يزورا قريتهما ثانيةً دون انقطاع هذه المرة، فودعتهما الأم وهي قد أعدت لهما بعض منتجات بيتها بين بيض ودواجن وسمن وألبان، وبعض المأكولات، كما كانا قد وادعا من قبل أهل سهيلة الذين كان لهما أيضاً منهم بمثل ما أعطتهما الأم. وفي العاصمة، ها هي سهيلة قد أحست بنبض في أحشائها، إنها باكورة ذرية شكيل منها الذي تقلد هو أيضاً في الوقت ذاته أعلى منصب في الوزارة التي يعمل بها، فهو الرجل الكفء الذي يستحق هذا المنصب الشاغر، واليوم وقد تحقق له بذلك كل ما يصبو إليه، فإنه لا يطمع في أكثر مما أعطاه الله تعالى ورزقه إياه، متمنياً فقط أن يكون أهلاً للثقة التي منح إياها في وظيفته، وأن يمن الله عليه وعلى أحبته وجميع أبناء وطنه وقريته ككل بالصحة والخير والعافية….انتهت.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights