صوت الندم
بلقيس آلبو سعيدية
مع مرور الوقت وتبدّل الظروف وتغيّر الأماكن ورحيل الأشخاص الذين اعتدنا على وجودهم بيننا، ومن خلال تجاربنا المختلفة في الحياة ومواقفنا التي تصير جزءً من تشكل شخصياتنا، وتبدّل أفكارنا وآرائنا ومبادئنا التي كنا دائمًا ما نقاتل بشراسة من أجلها، نجد أنفسنا بأننا قد تبدلنا من أشخاصٍ نعرفهم إلى أشخاصٍ نجهلهم. تشكلنا الحياة منحوتة معجونة بالعديد من الحكم والمواعظ التي اكتسبناها وأدركنا معانيها متأخرًا بعد أن خرجنا من معارك حاسمة بجيوبٍ فارغة وأرواح ثكلى.
نمرّ في فترة ضياع لا نستطيع فيها إسعاف أنفسنا أو فهم أسباب ضياعنا، ومهما حاولنا الغوص في أغوار نفوسنا لنمسك نور حقيقتنا وسرّ ما نحن عليه فإننا نعود ولا شيء معنا سوى نظراتنا الحائرة، تساؤلاتٌ عديدة لا نجد لها جوابًا مقنعًا، نعيد عقارب الساعة إلى الوراء لندقق في ماضينا، في تلك الأحداث التي ندرك يقينًا بأنها سبب ما نحن عليه، سبب تلك الفوضى العارمة التي تجتاح دواخلنا، نبدأ في تعداد خسائرنا وإحصاء هزائمنا، كم مرّة تألمنا وبكينا، كسرنا وخذلنا؟ كم مرّة تعثرنا ونهضنا بنزيف حاد في قلوبنا؟ كم مرّة خدعتنا الوجوه وأخذت من نور وجوهنا؟ ندقق في مواقفنا الصعبة التي غالبًا ما تصير ذكرى خالدة في ذاكرتنا، لا ننسى ملامحها والإحساس الذي ولد فينا من خلالها وظلّ حبيس أضلاعنا.
يتعبنا تصورنا للأحداث الماضية بطريقةٍ مختلفة، ومحاولاتنا الفاشلة في إعادة صياغة تفاصيل حكاية مربكة جرت أحداثها عكس توقعاتنا، أفكار يمليها علينا صوتٌ نابع من أعماقنا، صوت صارخ فينا، صوت الندم، ذاك الصوت الذي يظلّ يصدح في أعماقنا معاتبا إيّانا على فرصنا الضائعة التي لم نحسن استغلالها، على ذاك الشعور الذي تردّدنا في الإفصاح عنه، أو تلك الكلمات التي نطقنا بها حين كان واجبٌ علينا أن نبتلعها ونصمت. صوت لا يتوقف عن أخبارنا بأنه كان بإمكاننا أن نكون أشخاصًا أفضل لو أننا عبّرنا عن رغباتنا واحتوينا ذواتنا وبذلنا جهدًا أعظم.
يختلف وقع إحساس الندم من شخصٍ لآخر باختلاف الأحداث المرتبطة بظروفه، زمانه، ومكانه، يختلف باختلاف تفاصيل حكاية كل واحدٍ منّا ونظرته إليها وتقبله لنتائجها، فما تندم عليه أنت قد لا يحرك ساكنًا في غيرك. بعد محاولاتٍ عديدة للنّفاد من سطوة شعورك بالندم تعود تلملم ذاتك من جديد، تفتح نوافذ قلبك لتسطع شمس الحياة في داخلك بعد غروب طويل، تعقد الصلح ما بينك ونفسك، تضحك في وجه ماضيك، تتقبل خسائرك وتصفح عن زلاتك وتعذّر كل الأشخاصِ الذين مرّوا من خلالك دون أن يدركوا عمقك أو أن يلمحوا وجه حقيقتك، تعيد ترتيب الأيام لصالحك متناسيًا فصول حكاياتك الماضية باحثًا عن وجهةٍ جديدة، معاهدًا نفسك على عدم تكرار كل تلك القرارات التي اتخذتها، والأحكام المغلوطة التي حكمت بها على نفسك والأشخاص من حولك، تتوقف عن عتابك وجلد ذاتك على ماضيك الذي تمنّيت كثيرًا لو أنك لم تكن جزءً منه، أو أنك خرجت منه بأقل الخسائر وبروحٍ راضية ونفس مطمئنة.
تواجه ألمك وتأخذ درسك العظيم من جيوب ماضيك، تروِ قصتك على مسامع الآخرين بلسانٍ مفتخر لا لكسب ثنائهم بل لتثبت لهم مدى شجاعتك، لتخبر نفسك والعالم كمْ كنت وما زلت بطلاً وأنت تقاتل وتهزم، وأنت تقاوم وتكسر. تواسي نفسك هامسًا لها بأنه لا بأس بالقليل من التجارب الفاشلة والعلاقات السّامّة، والتّضحية، والخسائر غير المحسوبة في سبيل إدراك بعض الحقائق التي كنت تعيشها بعقل جاهل وروح طفلة وقلب غافل.