خلفان بن ناصر الرواحي
في فجر يوم الأحد تاريخ ٢٦ يونيو ٢٠٢٢م كان الختام والعودة للوطن الغالي سلطنة عُمان، محلقين في سماء زنجبار بلحظات الوداع على أمل العودة مرة أخرى بمشئية الله تعالى إن كان للعمر بقية، على موعد لزيارة مناطق أخرى في جمهورية تنزانيا، فاستغرقت رحلة العودة حوالي خمس ساعات من مطار زنجبار إلى مطار مسقط الدولي، حاملين معنا بعض الذكريات ومخزونًا لا بأس به لنسطر بعض الحروف في كلمات تتناسب مع حق التعبير بالقلم بما علّه يكون مفيدًا لنا وللآخرين.
لقد كانت رحلتي ماتعة للغاية، قضيتها في جزيرة زنجبار لمدة شهر واحد؛ حيث كانت لحظاتها دروسًا مثيرة ومعبرة بالنسبة لي، وأعدها ضمن أجمل الرحلات التي قضيتها خلال تجاربي الشخصية السابقة لبعض الدول الأخرى، سواء كانت بصحبة العائلة للنقاهة أو رحلات مهام العمل التي كانت ضمن مسيرة حياتي العملية.
لقد كانت هذه الرحلة ممتزجة بين النقاهة وبين البحث عن مكنون ذلك المكان من طبيعة ساحرة، والتعرف عن قرب عن بعض حياة الناس، وبعض الجوانب التاريخية، وكذلك التعرف على شخصيات جديدة سواء في ذلك المكان أو من وطننا الغالي سلطنة عُمان، وحظيت في هذه الرحلة بالتعرف على أربعة أشخاص عمانيين أحدهم في رحلة الذهاب بالطائرة، والباقين في رحلة العودة التقيت بهم في مطار زنجبار، وقد استفدت كثيرًا أيضًا من بعض تجاربهم الشخصية بالرغم أنه كان اللقاء الأول بيننا وفترته قصيرة جدًا، وتشرفنا بتبادل أرقام التواصل معهم لتكون العلاقة مستمرة وليست مجرد محطة واحدة، وهذه هي سجية الشهامة العربية المتأصلة منذ قدم التاريخ في الإنسان العربي بشكل عام والعُماني بشكل خاص، فالحياة كلها تواصل للتعرف والتعارف، فأمثال هذه الشخصيات التي تفتح لك المجال للتعرف عليها هي بمثابة الثروة الحقيقية للعلاقات الاجتماعية.
إنّ ما يميز هذه الرحلة خاصة دون سابقاتها هو حرصي على التدوين والتعبير عن المواقف التي رأيتها وعايشتها، وساقها حبر قلمي لاستلهام العبر والدروس، فالرحلات السابقة لم أكن أهتم بالتدوين والكتابة عنها، فكنت أكتفي بالتقاط الصور التذكارية، والاحتفاظ ببعض الذكريات الجميلة في مخيلة كشكول الذكريات في العقل دون الكتابة، وهذا في حد ذاته عددته عيبًا أو قصورًا شخصيًا، ولم يكن له أي قيمة عندي سابقًا؛ فلهذا استدركت نفسي لتصحيح مسارها والتعبير عن زيارتي هذه بشكل خاص في عدة مقالات، لعلها تكون مفيدة لنفسي ولغيري للاستفادة منها للاستطلاعات وكشف أسرار الأسفار، ولنا في العديد من الرحالة العرب القدوة الحسنة؛ حيث أجادوا في سرد قصص كثيرة لما شاهدوه وعايشوه من أحداث الشعوب، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر كلا من:
١- العلامة والمؤرخ والرحالة علي بن الحسين المسعودي، فقد كان من رحالة القرن الرابع للهجرة، وترك العديد من المؤلفات في التاريخ.
٢- الرحالة محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي، علامة وجغرافي، ولد في فلسطين في مدينة القدس، وكان متحدثًا بالفارسية؛ كون أمه أعجمية من خراسان، فكان مميزًا بشخصيته وعلمه، فقد حصل على العلوم والمعارف الكثيرة، وصقل السفر شخصيته وتجربته.
٣- الرحالة محمد بن عبد الله الطنجي المشهور ب”ابن بطوطة” وهو من أشهر الرحالة العرب، وكانت ضمن محطات رحلاته بعض المناطق لسلطنة عُمان، ويُعد من أوائل الرحالة في العالم، ولد في طنجة بدولة المغرب، لعائلة مسلمة اهتمت بالعلوم الشرعية؛ فتلقى ابن بطوطة العلوم الشرعية والعربية والأدب، وهذا ما أعانه على صياغة كتابه الشهير “تحفة النُّظار في غرائب الأمصار”.
٤- العلامة والمؤرخ والأديب الرحالة ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع والعمران، اسمه عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون، وهو من عائلة عربية أصلها من اليمن، ولكنه ولد في تونس.
فمن هذا المنطلق أحببت تبيان أهمية التدوين والتعبير عن الرأي، واستخلاص الدروس والعبر، وكذلك أحببت تبيان بعض الأمثلة من ثلة الرحالة العرب في تاريخنا الإسلامي ممن اشتهروا وذاع صيتهم؛ وذلك أيضًا لبيان أهمية التدوين ولو بشكل مختصر، ومن تلك الدروس المستفادة أيضًا بالنسبة لتجربتي الشخصية لو تمعنا تلك الأسماء التي أشرنا لها لوجدنا أن الترحال كان معينًا لهم على فهم الحياة والتعرف على الحضارات والثقافات، فمنهم من أراد برحلته التعلم، ومنهم كان هدفه التعرف على الحضارات الأخرى، وما حفظ تجربتهم وخلاصة رحلاتهم في الكتابة والتدوين إلا نتاج جهد كبير وخلاصة لعصارة الفكر، وكنز متنوع في شتى المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها من المجالات الأخرى، ولنا في أبيات الإمام الشافعي -رحمه الله- عن الترحال خير خلاصة وعبرة؛ حيث يقول:
تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا
وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ
وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ
وَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَمِحنَةٌ
وَقَطعُ الفَيافي وَاِكتِسابُ الشَدائِدِ
فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ
بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ
وفي ختام هذه السلسلة من المقالات عن هذه التجربة نذّكر بأهمية الاستفادة للتعبير عن المخزون الفكري، واستخدام أسلوب التشويق، والمقارنة إن كانت هناك حاجة لذلك وبما يتوافق بين الحياة في الوطن الأم -مسقط الرأس- وبين الأوطان الأخرى بما يفيد الكاتب نفسه ويفيد الآخرين دون مبالغة، وبمصداقية دون تجريح أو مساس بكرامة الإنسان والأوطان، والتفريق بين حياة الإنسان بفطرته السوية وبين السياسة في تلك الدول، وعلى كل كاتب تقدير مكانة القلم، واحترام حقوق الناس مهما كانت توجهاتهم وفلسفتهم في الحياة.