القروي والعاصمة.. (10-15)
خميس بن محسن البادي
عرفنا في الجزء السابق أن سهيلة تعافت من أزمتها الصحية وأنهت لها المحكمة المختصة بتعاون وطلب أهل زوجها المتوفى كل ما لها من تركة، وتفرغت لحياتها وإدارة مؤسستها التجارية، بل وقامت بينها وشكيل شراكة تجارية، كما صارا لاحقاً زوجين قبل أن يسبق ذلك بعض المنغصات القاتمة التي واجهها شكيل فيما يتعلق بزواجه منها نتيجة عدم وضوح رؤية الخلاف له بينها وأهلها وأهل زوجها الراحل.
وقضى الزوجان أول أيام حياتهما الزوجية في تجوال لبعض الأمكنة داخلياً وخارجياً، إلا القرية حيث عارضت سهيلة زيارتها، فتركها شكيل وزار قريته وأطلع والدته بتمام زواجه من سهيلة، والتي بدورها لم تعلق إلا بقولها مبارك لكما وعسى الله أن يسعدكما معاً، فهي تتذكر ما ألمّ بابنها حين غضبت وأخذت عليه موقفاً عند زواجه بالغالية الراحلة جهينة قبل أن تتعرف إليها عن قرب وتتكشف لها دماثة خلقها، ومن جانب شكيل لم تسمح له أخلاقه أن يدع والد سهيلة دون أن يعلمه بإتمام زواجه بابنته فزاره وأخبره بذلك، ولكن الأب الذي يكن احتراماً جماً لـ(شكيل) لم يكن منه إلا أن ذكّره بنصيحته غير المباشرة نحو أهمية أخذ الحذر من بعض الزوجات عند التعامل معهن، مؤكداً له مباركته له في الوقت ذاته طالما هي رغبته بزواجه منها- أي سهيلة-، فغادر القرية وهو مطمئن أن كل من والدته ووالد سهيلة قد أبدى كل منهما موافقته من زواجه هذا ولو على غير قناعة بدرجة الرضا، بينما قرر هو سراً ولنفسه دون إبلاغ أيٍّ كان التأني في الإنجاب من سهيلة حتى تتضح له غوامض أمورها وتنكشف الغمامة لتتجلى له نياتها كي لا يكون الوليد ضحية زواج فاشل إن استحالت ديمومته بينهما، وذلك نتيجة مخاوفه من عدم أهلية سهيلة بأن تكون قرين وأما صالحة لأولادهما لما أحاطاه به كل من أمه وعمه من هواجس مؤرقة وغامضة من هذا الزواج، وبانتهاء أجازة شكيل باشر عمله في حين لم تفوّت سهيلة الوقت والفرصة فقد طلبت من زوجها توظيفها في الوزارة التي يعمل بها مستندة في ذلك بشهادتها الجامعية، فحاول ثنيها عن قرارها مبيّناً لها أن إدارة تجارتهما أولى بوقتها من أي ارتباط آخر، لكنها أصرت أن تكون موظفة قطاع عام بمؤهلها العلمي إلى جانب إدارة أعمالهما التجارية الخاصة بهما، وحيث أن شكيل مع تقدم المرأة ومع فكرة ضرورة مساهمتها في خدمة بلدها فقد سعى إلى تلبية رغبتها فكان لها ما أرادت من ذلك المبدأ والمنطلق؛ وبذلك قدم طلب تعيينها بجهة أخرى غير الجهة التي يعمل هو بها، وبعد الإجراءات المتبعة تمت الموافقة على الطلب وتم تعيينها، وبعد فترة تدريب معينة ترأست أحد الأقسام بناءً على مؤهلها العلمي، وها هي مجدداً تطلب أمراً آخر بعد سنين مضت من العمر فهي المرأة العصرية المتعلمة الجامعية والموظفة بالقطاع العام وصاحبة مؤسسة تجارية وفقاً لوجهة نظرها، إذاً ما الذي تطلبه سهيلة من زوجها شكيل وهي التي جمعت بين كل ما ذُكِر؟، إنها تريده أن يغيّر اسمه التقليدي القديم وأن ذلك هو مطلبها وغايتها فهي ترى أن الاسم رجعي وبدائي طبقاً لقناعتها الشخصية ورأيها فيه، وبدلال أنثوي اقترحت عليه أن يبدل اسمه ليكون منسجماً مع البيئة التي يعيش فيها والمجتمع الذي أصبح جزءاً منه، واختارت له اسم (شاكر)ليكون قريبًا من سلفه(شكيل) وألحت عليه بضرورة تغييره في كل وثائقه، وبدوره وعدها بأن ينظر في الموضوع ولكن شكيل تساءل في قرارة نفسه عن كيفية تغيير اسمه الذي عُرِف به وبعد مضي كل السنوات التي انقضت من عمره، وما هو غير الملائم فيه، وهل له علاقة بكونه يعيش في العاصمة وزوجاً لـ(سهيلة)؟، وما الداعي لتغييره وتبديد أموال كرسوم لذلك، أم أن الاسم نكرة على زوجته ومجتمعها؟، كل هذه الأسئلة راودت شكيل الذي لم يرضَ قط بتغيير الاسم الذي عُرِفَ به منذ ولادته والتخلي عنه تحت أي ظرف من الظروف، وفي ذات الوقت تقبل منها ولو بغير اقتناع منه أن تناديه بالاسم الذي اختارته هي له طالما لم يغير ذلك من الأمر شيئاً، في حين ما تزال هي تلح عليه من وقت لآخر وتحثه لتغيير اسمه رسمياً، وباعتبار أن سهيلة صارت أقرب إليه من أي شخص آخر بحكم العلاقة الزوجية بينهما فقد بدأت تتكشف له حقائق جديدة في شخصيتها، سهيلة التي خرجت من ذات القرية التي خرج هو منها، تلكم القرية القابعة بين شامخات الجبال وعلى سفوحها وضفاف واديها، مستذكراً ذلك التقدير والاحترام الذي كانت تبديه له ولا تمانعه أو تعارضه بداية الخوْض في مشروع زواجهما مع ما أظهرته له من دماثة الخلق وحسن العشرة التي استنتجها بأنها ما هي إلا أمور تمهيدية، كان الهدف من ورائها إيقاعه في شركها بزواجه منها، إذاً هو هنا قد بدأ يعرف حقيقة أسباب ممانعة والدته ووالد سهيلة من قيام زواجهما، وتمنى لو أنهما كانا أكثر صراحةً معه حول الصفات التي اتصفت بها زوجه قبل الزواج بدلاً من اكتفاء كل منهما بإسداء إليه النصائح الغامضة والمبهمة بعدم زواجه بـ(سهيلة) حتى لا تكون مفاجأة له من امرأة لم يتوقع منها ذلك، لكن ربما كان ذلك منهما نتيجة علمهما بحرمة النميمة وفقاً لفهمهما الديني، فهي التي نهلت من التربية أفضلها ومن التنشئة أرقاها تهذيباً، تلكم التربية التي يتربى عليها القروي القح ذكراً كان أو أنثى والمتمثلة في تقدير الآخر واحترامه ومعرفة كل منهما مكانته، لاسيما بعد البلوغ والاستقلال الذاتي والحياة الزوجية المشتركة بين الرجل والمرأة، إضافة طبعاً إلى الأخلاق السوية دينياً، وكان من المستبعد أن تكون سهيلة قد شابها الغرور والتكبر والغطرسة وسعيها نحو تولي قيادة شؤون الأسرة التي من بينها ما يخص الزوج في ذلك، وهي لا شك صفات فاضلة ومحببة في المرأة ينشدها الرجل السوي في أنثاه ولكنها لم تكن تلك الفتاة التي عرفها شكيل منذ الصبا، فقد اكتشف فيها حبها للشكليات والمظاهر وسعيها لتكون في المواقع القيادية وتقليلها من شأن الطرف الآخر وتعاليها عليه أياً كان ذلك الطرف بالنسبة إليها، لكن شكيل لم ييأس بل قرر أن يعمل على كبح مواقفها المتعنتة وفي الوقت عينه استخدم معها الأسلوب الذي يرضيها لحين إيجاده ما يستأصل من داخلها هذا النزق المكتسب، نعم فقد اكتسبت هذه الصفات السلبية من ضعف لبعض الأشخاص الذين اختلطت بهم وعاشت مع بعضهم وأرادت أن تسيطر على الآخرين وتقودهم كما تريد هي بمن فيهم زوجها المتوفى الذي كان مسالماً لأبعد الحدود، وجعل بذلك منها نمرة تتنمر من خلال ضعفه أمامها على الجميع، بل وتعالت على والديها وأبناء قريتها، ويبدو أن هذا ما سيرفضه شكيل جملةً وتفصيلاً من سهيلة، بل لا يمكن له أن يقبله منها تحت أي ظرف من الظروف؛ ولهذا كان سبب تأجيله الإنجاب منها منطقياً من شخص يزن الأمور بعقله، ولذلك وكي يكون عادلًا في قراره معها قرر أن يتحرى سرياً بطريقته عن أسلوبها في التعامل مع الآخرين ليقارنها بما اكتشفه هو فيها بعد زواجه بها ليتمكن من تحديد مصير حياتهما بعد ذلك.
ومن خلال سعيه في كشف حقيقة تعامل زوجه بالمحيطين بها والمتعاملين معها توصل إلى أنها كانت سبب فتنة بين زوجها الراحل وأهله أدت لفراق من الزمن بينهم، وكان الزوج المتوفى أسيراً لها ويرضخ لكافة طلباتها ويستمع لكل قراراتها وأوامرها، وقد تنكرت للجميع وتعالت عليهم بمن في ذلك أهلها، ولم ترضَ بهم كونهم يعيشون في قرية غير ذات مدنية وتطوّر، ولم يكن أمام أهل الزوج الراحل إلا أن يتصدوا لها ولغطرستها فطالبوا ابنهم آنذاك أخذها بعيداً عنهم، فأخذها حينها للسكن معها في مكان آخر بعيداً عنهم حيث استقرت بهما الحال في العاصمة، وفي حين بقي هو على تواصل بأهله من وقت لآخر بعد مشاكل وخلافات سبقت ذلك التواصل بسبب سهيلة.
نعم هذا ما توصل إليه شكيل ليزداد بذلك يقيناً بظنونه وما اكتشفه فيها من خصال اكتسبتها والأسباب التي كانت وراء عدم قبول والدته ووالد سهيلة بزواجه منها، فهي إذاً متنكرة لأصلها جاحدة فضل أهلها عليها، وناكرة قريتها، بل وتعالت وتكبرت على ماضي نشأتها البسيط والمتواضع والتربية الفاضلة التي تربت عليها في تلكم القرية التي خرج منها هو وهي وغيرهما قبلهما ومن بعدهما، فهل سيقبل شكيل أن يكون أسير جبروت سهيلة وطوْع أمرها في كل صغيرة وكبيرة وتكون حاله مشتتة بين أهله في القرية وزوجه المتغطرسة كما كان زوجها الراحل، خاصة وأنهما من قرية واحدة وهو يجل احتراماً جماً لوالدها وأسرتها، إضافة إلى كونها ثمرة حبه القديم التي تجددت وصارت إلى ما آلت إليه الأمور بينهما حالياً؟ ذلك ما سنعرفه في جوانب من الجزء القادم بإذن الله تعالى.