نعم، لقد تغيّرْت..
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
في مرحلة من مراحل عمرنا نجد أنفسنا بحاجة لمراجعة عدة ملفات حياتية كنا وقتها نتناولها تناولا بطريقة ما تختلف عن تناولنا لها في وقتها الآن، فثمة أمور قد نراها من زاوية واحدة، ونظن أن لها بعدا محددا، وسرعان ما تمر الأيام، ونجد الأمور نفسها نعيد قراءتها بمنظور آخر، وبرؤية أخرى؛ فينتُج رأي ذو قيمة لم ندرك أبعاده حينها.
ولعل هذا الأمر يظهر جليا بعد اكتساب عدة خبرات حياتية خاصة في أواخر العقد الرابع ومع بدايات العقد الخامس ومع مرور الزمن، وتغيرات الحياة تعنُّ لنا أسئلة بين الحين والآخر: هل هذا رأيي؟ ألم يتغير موقفي تجاه هذا الأمر؟ أليس هناك رأي آخر يمكن قبوله؟ أما زلت تنظر بعين واحدة؟ أما آن لك أن تتغير؟ وغير ذلك كثير.
وسرعان ما نجد أنفسنا بعد محادثات وحوارات نقول: نعم، سنتغير، وليس هذا منتهى الأمر، بل تسرع بنا الحياة في أمور كثيرة، وقد تغيرنا حقيقة دون أن ندرك أبعاد هذا التغير، متى بدأ؟ وكيف تم؟ ولماذا كان؟
أتذكر يوما ما كنا في نقاش علمي لعدة مسائل لغوية، وكان أحدنا يذكر رأيه في بعضها متعصبا له رافضا القول الآخر، مع يقينه التام بجوازه في سياقات متنوعة، وبقراءات أخرى، وأتذكر قولي له: هل اطلعت على كافة السياقات التي يمكن أن يقبلها النص هنا؟ فكان يزيده هذا تعصبا لرأيه، ومع مرور الزمن جمعتنا لقاءات أخرى، وتذكرنا تلك الأيام، وها هو صاحبنا يقول في بداية جلستنا: كنت يوما ما أقرأ بعين واحدة، وكنت من أصحاب ذوي الرأي الواحد، وكم تعصبت لرأيي كثيرا؛ فضيع علي كثيرا من قراءات سياقية تقبلها النصوص، لكن.. لكل مرحلة فكرها، وقد تغيرْت، وتغيرَت حياتي كلها.
كم من آراء لنا في قضايا حياتية كثيرة كنا نظن يوما ما أنها -وليس غيرها- هي الصواب، وكم من مواقف خسرناها مع أهلنا وأصدقائنا وذوينا بسبب قراءة العين الواحدة، وبعد مرور سنوات أدركنا أن لنا عينا أخرى يمكن أن ترينا الأشياء بزاوية مختلفة، ومن ثَمَّ نكون إيجابيين في كثير من أمور حياتنا، ويتلاشى ضباب تلك الرؤية الواحدة، نعم، كنا مبصرين، لكن لم نك من ذوي البصيرة، وليتنا تغافلنا!
وهذا حال كثير منا تجاه أمور حياتية متنوعة تقابلنا كل يوم في كافة المجالات، ونتعايش معها ومع الآخرين دون أن ندرك أننا المسئولون عن سعادتنا لا غيرنا، وأن الحياة بها أشياء تستحق منا أن نستمتع بها، وأن الراحة الحقيقية ليست في الجدال والخصام والتعصب للرأي وانتقاد الآخرين وغير ذلك كثير، بل راحتنا وسكينتنا في القرب من الله تعالى وحسن التوكل عليه، وأساس التعامل مع الآخر ابتعادنا عن كل ما يثير في النفس شجنا وألما من خلال حوارات بلا هدف، ولا رؤية، ولا فائدة.
وحينها سندرك أننا تغيرنا، وتغير فكرنا، وأصبحنا في بداية مرحلة جديدة نحاول أن نستمتع بها مبتعدين عن كل ما يعكر صفوها، وتصبح نفوسنا بيضاء، وقلوبنا نقية طاهرة، ويصبح لفنجان القهوة الذي نحتسيه في ركن ما مذاق مختلف عما قبل، وصوت النفس الداخلي يردد قبيل المغرب مع نسيم هواء بارد يفوح عطرا، ونشتم عبيره: نعم، لقد تغيّرت.