جمر تحت الجليد
عبدالله بن حمدان الفارسي
عندما تفرض القوة المتغطرسة استبدادها وهيمنتها على ما هو أدنى منها في محاولة لاعتصاره باستنزاف كافة مكوناته المختلفة، لا بد أن يكون لذلك مبررات ودوافع جوهرية ذات أبعاد مأساوية، يكون وقعها السلبي على الحلقة الأضعف أو الطرف الأدنى، وهذه القوة التي اكتسبتها من خلال المخزون المتنوع الخاص بها جعلت منها مطرقة لممارسة الضغوط وطقوس العبودية والإذلال على الطرف الأضعف، والاستبداد عادة ما تكون مكونات سيطرته فقدان أو انعدام الند المنافس أو الرادع له، سواء بالقوانين المنصفة أو من خلال متابعة إجراءاته العملية، وسير النمط المهني لديه؛ وبالتالي وفي ظل غياب الرقابة الحقيقية يجد ضالته في النمو والتوسع من حيث فرض السيطرة وسن القوانين والأنظمة حسب مبتغاه، وبما يتناسب وطموحاته وتطلعاته دون مراعاة لمن هم دون المستوى، وأما النقيض الآخر (الحلقة الأضعف) فيستمد طاقته السلبية في الكثير من الأحيان من الإيمان المترسب والمتجذر فيه، وبعدم تنظيف الذات ومحاولة تنمية موارده بناء على احتياجاته الآنية، والتخطيط الممنهج لمتطلباته الآتية، والتخلص من القوقعة التي فرضها على ذاته، وأبى استسلامًا ألا يخرج منها، كما أن هذا الاستسلام الخانع والرضوخ له ببسط رقبته لتكون سلما لارتقاء الجانب الآخر عليها.
إن الممارسات المقننة والمغلفة بأطر المساعدات والتي باطنها سلب مقنن تنتهجها بعض المؤسسات التجارية والمصرفية والتمويلية على زبائنها ومرتاديها تمرر عبر قنوات، وإجراءات، وشروط في الغالب تكون مظللة ومبهمة، متخذة طابع الفخ، ظاهره حق، وباطنه باطل، مدمر للزبون لا يدرك عواقبه إلا بعد فوات الأوان، أو بعد إثبات موافقته الموثقة على بنود الفخ الذي أوقع نفسه فيه أو غرر به، وقد يكون على إلمام ودراية بما أفرضه على نفسه، ولكن لضيق ذات اليد والاحتياجات الضرورية أدت به ليكون ضحية للاستبداد والظلم الكامن تحت مظلة الإنقاذ المذل، فنجد الكثير من تلك المؤسسات التي ذكرتها تستغل احتياجات الناس، وقسوة الظروف عليهم، وجهلهم التام لمحتوى تلك العقود، وكذلك لعدم وجود البديل المنافس، وأيضًا فقدان الوعي والإدراك لدى الناس أمر سهّل من مهمة تلك المؤسسات في توسيع مساحة التمدد غير المسئول، وغير المكترث بمدى تبعات هذه المنهجية التي تتخذها ضد من تجبرهم الحاجة للجوء إليها. ولو تمعّنا في تلك القوانين والأنظمة لسوف نجد معظم بنودها مغردة خارج مبادئ الإسلام وسماحته، وهمها الأول في كيفية إستجلاب ضحاياها والاكتساب الجائر على أعناقهم، كما أن من مبادئ هذه المؤسسات التجرد من عباءة الرحمة، والتنازل من باب التعاطف، وإن كانت هناك تنازلات أو تساهل من قبلها غالبًا ما تأتي لمصلحتها، من حيث تمديد فترة السداد مع الفوائد القاصمة للظهر، مع الرفض القاطع للتخلي عن أي جزء من المتبقي مهما آلت إليه ظروف الطرف الآخر.
إن هذه الظاهرة المستبدة أراها من وجهة نظري المتواضعة تعّمد سافر للكسب غير المشروع، وإن كان يمارس بوثائق ظاهرها قانوني، وذلك من خلال العقود والاتفاقيات المتعددة للأوراق والمستندات الكثيرة منها، والمبهمة للمواد والبنود التي تحتويها، مما يجعل الطرف الأضعف في وضع يصعب فيه قراءة تلك البنود كاملة وتفسيرها وتمحيصها ومناقشتها، وإن وجد الوقت لذلك لا يجد العزيمة لرفضها؛ لقسوة الحاجة والضغوطات الناتجة عنها، في المقابل تجد أن تلك المؤسسات تبدي اشتراطاتها الكثيرة ومتطلباتها المثيرة والموثقة من الزبون بما يضمن حقوقها، مكبلة يده وعقله قبل الشروع في منحه وتلبية مآربه، فنحن أمام طغيان مؤسسات استغلالية في ظل غياب الرادع لإجبارها بوضع شروط موحدة، تتناسب وظروف الآخر والأوضاع المعيشية نظرًا للظروف الراهنة، وأن تُراجع تلك الشروط من قانونيين محايدين، ومقابل هذه المراجعة القانونية تُدفع رسوم يكون طرفها الدائن، وأن يكون الزبون أو المديون تحت وصاية قانون الدولة، يحميه من تمادي تلك المؤسسات وجشعها، وعلى اطلاع ومتابعة لمجريات عملية السداد، والوقوف على الجوانب التي تعيق استمراريتها، بجانب ذلك تكوين محطات ذات طابع حكومي/ خاص تكون مصادر دخلها مساهمة رمزية تستقطع من راتب المديون؛ مهمة تلك المحطات وهدفها، تسهيل أمور المتعسر وتيسيرها في حالة التعثر، بعد دراسة مستفيضة لأسباب تعسره، ولمرة واحدة طوال مدة التمويل، ولدينا الكثير من هم خلف القضبان، وأسوار السجون وغياهبها، وخارج نطاق الاسترخاء، والارتياح النفسي لأسباب خارجة عن الإرادة والقرار الذاتي. وهذه مؤشرات لها تأثيرها على سلامة الفرد والمجتمع على المدى المنظور من حيث التخلف، والتلف الذهني، وزيادة منسوب التدني من التحصيل العلمي والمعرفي، وخلق نوع من الفوضى المجتمعية، وتراكم معدلات الممارسات والسلوكيات العشوائية وتزايدها، وتضخم الدين المجتمعي العام، كل هذا بسبب كثافة ضبابية قوانين الاستبداد التي تخيم على نمط الحياة العامة.